لا خوف على موريتانيا..
صباح يوم الإثنين 12 فبراير 2018 كان يوما عاديا، تلقيت فيه دعوة لتغطية مؤتمر صحفي تعقده منظمة هيومن رايتس ووتش الأمريكية بمقر "فوناد" بانواكشوط، لبيت الدعوة كما هو معتاد في مثل هذه الحالات، حضرت إلى مقر المؤتمر، وعلى الفور لاحظت حرصا من المنظمين على التدخل في كل شيء، وأخذ معلومات عن كل شيء، حيث طلب من الصحفيين تسجيل أسمائهم، وأرقام هواتفهم، وإيميلاتهم، ومؤسساتهم الصحفية حتى يـُسمح لهم بالولوج للقاعة، ورغم حرص المنظمين على كل هذه الإجراءات، إلا أن المؤتمر من أساسه لم يكن مـُرخصا من قبل السلطات، فكيف لمنظمة تدعي احترام القانون والدفاع عنه أن تعقد مؤتمرا صحفيا دون حصولها على إذن رسمي بذلك، خاصة وأن هذه المنظمة كانت قد تقدمت بطلب لسلطات تفرغ زينه، وتم رفض طلبها.
بعد دخولي القاعة، بدت لي أشبه بجلسة محاكمة، منها بمؤتمر صحفي، حيث جلس مسؤول منظمة هيومن رايتس ووتش لاعبا دور القاضي، بمساعدة زميلته، وجلس بيرام ولد اعبيدي عن يمينه ممثلا دور الادعاء العام (النيابة)، وجلس الصحفيون، والحقوقيون - على قلتهم- باعتبارهم جمهور المحاكمة، والمتهم هنا هو: الجمهورية الإسلامية الموريتانية، في حين تولى عناصر بيرام دور الشرطة، قبل أن يتحولوا إلى "بلطجية"، وبعد أن اطلعت على الإيجاز الصحفي الذي وزعته المنظمة الأمريكية علينا باللغة العربية، مصحوبا بعبارة "النشر الفوري" قررت أن ألعب دور محامي الدفاع عن المتهم "موريتانيا"، لكن القاضي هنا كان قد أعد حكمه مسبقا، ورفض حتى مجرد السماح لي بتقديم مرافعة - ولو مختصرة- في شكل أسئلة، تبين تهافت تقرير المنظمة عن أوضاع حقوق الإنسان في موريتانيا، وكيف تحولت من منظمة حقوقية إلى أداة ناعمة لضرب النسيج المجتمعي للبلد، وتحريض بعض مكونات الشعب على مكوناته الأخرى، وتزوير تاريخ، وثقافة الشعب الموريتاني.
كنت قد أعددت على عجل ثلاثة أسئلة فقط، لم يسمح لي مسؤول المنظمة- أو القاضي هنا- إلا بتقديم سؤالين منها فقط، لكن وقع السؤالين كان كبيرا، وتأثيرهما أكبر من قدرة بيرام ولد اعبيدي على التحمل، والاستماع، وحتى مسؤولو المنظمة الأمريكية بدا عليهم الارتباك، والحيرة، عندما أظهرت لهم تناقضهم، وتجاوزهم لصلاحياتهم كمنظمة حقوقية، وما زاد من انزعاجهم هو أنني كنت أستشهد دائما بتقريرهم لأفنده نقطة نقطة، انطلاقا من التقرير ذاته.
كان السؤال الأول يتعلق بعدم احترام المنظمة للدستور الموريتاني الذي يقول إن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وباعتراف تقرير المنظمة فإن غالبية الموريتانيين يتحدثون "الحسانية" التي هي لهجة عربية حسب التقرير، ومع ذلك تصر المنظمة على فرض لغة أجنبية في القاعة، لكن ذلك لم يكن أكثر ما أزعجهم، بل انزعجوا أكثر عندما نبهتهم إلى أن مسألة تحديد نسبة لحراطين، والبيظان، والزنوج مسألة تخص الشعب الموريتاني، ولا دخل لمنظمتهم في ذلك، ثم إن زعمهم أن مكونا معينا يشكل غالبية الشعب، ومكونا آخر هو مجرد أقلية مهيمنة على السلطة والثروة، ومنتهكة للحقوق كان بمثابة تجاوز لكل الحدود، وانحيازا واضحا لشريحة ضد شرائح أخرى، ولم تكتف المنظمة بتشويه تاريخ الشعب الموريتاني وتزويره، بالزعم أن أصل لحراطين ليس عربيا، بل عبثت بحاضر الشعب، بزعمها أن الدولة الرسمية في موريتانيا مارست مذابح ضد مكون اجتماعي معين في نهاية الثمانينات، ومطلع التسعينات، وتجاهلت المنظمة معناة المكونات الأخرى من تلك الأحداث المؤلمة.
والغريب في تقرير هذه المنظمة أنها تجاهلت العبودية في مجتمع الزنوج، وهي عبودية متجذرة، ولا تزال ممارسة حتى اليوم، ولم تتطرق المنظمة إلا إلى الاسترقاق الذي يمارسه "البيظان" حسب المنظمة، كما تجاهل التقرير حقيقة أن الموريتانيين طووا صفحة تلك الأحداث المؤلمة، وتوصلوا إلى تسوية مرضية للإرث الإنساني، واعترفت بها الأمم المتحدة، وأشرف النظام الحالي في البلد على إعادة المفصولين من وظائفهم، وتعويض المتضررين، وإعادة اللاجئين من السينيغال، وتمكينهم من أرضهم، وحقوقهم، كما توصل الموريتانيون مؤخرا إلى قوانين تجرم الاسترقاق، واتخذ النظام الحالي قرارات غير مسبوقة لجبر ضرر ضحايا الاسترقاق، والتمييز الإيجابي لصالحهم، فلماذا تأتي هيومن رايتس ووتش اليوم لتنكأ تلك الجراح بعد أن بلسمها الموريتانيون بطريقة راقية، وعادلة ؟؟؟!.
كما أن هذه المنظمة وقعت في تناقض فاضح، فمن جهة تدعو لاحترام القانون، ومن جهة أخرى تحرض منظمات غير شرعية على تنظيم مظاهرات وأنشطة غير مـرخصة، تماما كما نظمت هي مؤتمرا صحفيا غير مرخص، وعلى عكس تقارير المنظمات الحقوقية المهنية، والتي تتسم عادة بأخذ وجهات نظر جميع الفرقاء، والابتعاد عن التعميم، وإعطاء الأحكام الجاهزة مسبقا، وعدم إدانة طرف لوحده، عكس ذلك جاء تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش عن موريتانيا في 45 صفحة، كل سطر منها يحمل حكما جاهزا، أو معلومة مغلوطة، أو رأيا سلبيا، أو تشخيصا متحيزا، وكان واضحا أن هذه المنظمة استقت معلوماتها فقط من حركة إيرا، وزعيمها بيرام، ومنظمة معيلات الأسر، وبعض الشخصيات العنصرية، والمنظمات المتطرفة الأخرى، وتجاهلت المنظمة عشرات الهيئات الحقوقية الأخرى في البلد، وكان واضحا الطريقة الخاصة، والمعاملة التفضيلية التي عاملت بها المنظمة بيرام خلال المؤتمر الصحفي، حيث جلس بشكل منفصل عن بقية الحضور، وبطريقة بدا من خلالها أنه هو الوصي على هذا المؤتمر.
كانت مداخلتي هي الثانية، والأولى باللغة العربية، وكانت كفيلة بتفجير المؤتمر، وبعد أن تأكد بيرام، ورهطه أنهم غير قادرين على التحكم في مجريات المؤتمر وفرض رؤيتهم العنصرية، قرروا إثارة الفوضى داخل القاعة على طريقة علي، وعلى أعدائي، وصبوا جام غضبهم علي شخصيا، ونعتوني بأبشع النعوت، واعتدوا علي لفظيا، وجسديا، وعلى الفور استجابت منظمة هيومن رايتس ووتش لرغبة بيرام ورهطه، وقررت إنهاء المؤتر عند هذا الحد، والانسحاب، بدل طرد المشاغبين من أنصار بيرام خارج القاعة، ومواصلة المؤتمر حتى نهايته.
فشلت إذا خطة هذه المنظمة، بالتعاون مع بيرام ولد اعبيدي في إتمام جلسة النطق بالحكم، وتلاوة حكم الإدانة لموريتانيا شعبا، وتاريخا، وثقافة، لكن المنظمة، وعملاءها في موريتانيا نجحوا - من حيث لم يريدوا- في إيقاظ ضمير الشعب الموريتاني، بعد أن وخزوه بإبرة حادة في منطقة حساسة من جسمه، ألا وهي وحدته الوطنية، وسلمه الأهلي، وانسجام شعبه، وتنادت المنظمات الحقوقية، والمؤسسات الصحفية، والسياسيين، الجميع يرفض تقرير هذه المنظمة اليهودية، التي ما دخلت بلدا عربيا، مسلما إلا مزقت وحدته، وأشعلت فيه الحرائق، والأمثلة كثيرة، وقد تلقيت شخصيا مئات الاتصالات الهاتفية على مدى 6 أيام، بعضها من قادة معارضين بشدة للنظام، لكنهم أكدوا تضامنهم معي، ورفضهم لمضمون تقرير المنظمة الأمريكية، هذا فضلا عن التفاعل الواسع الذي حظيت به هذه القضية على فيسبوك، وواتساب، وهو تفاعل يؤكد بجلاء أنه لا خوف على موريتانيا رغم مكر الحاقدين، فعندما يتعلق الأمر بوحدة الشعب، وانسجامه، وسلمه الأهلي فالموريتانيون - كل الموريتانيين- سدا منيعا في وجه أي تهديد لهذه المقدسات، وتأكد للجميع أن تحالف الأطماع الخارجية، مع المصالح الشخصية الداخلية تحالف لن ينجح في زعزعة هذا البلد، الذي ظل آمنا مطمئنا يأتيه رزقه رغدا من كل مكان، وسيظل كذلك بتوفيق من الله، ثم بيقظة شعبه.
بقلم: الأستاذ سعدبوه الشيخ محمد، مدير موقع الوسط الإخباري.