مشاهد الإيمان في رمضان/ مشهد المحاسبة
مشهد المحاسبة:
إنَّ الناصح لنفسه تمرُّ عليه بعضُ الأوقات أو بعض المواقف، فتكون موضعَ نظَرِه ومحطَّ فِكره، بل ربما كانت سببًا في تغيير حَياته.
والمؤمن في هذه اللحظات يَنظُر في صَحِيفته ليعلَم أين هو، وما مدى قُربِه من ربِّه، هل هو على الصِّراط المستقيم، أو أغواه الشيطان إلى سُبُلِه وحَبائله؛ فعاش في التِّيه لا يدري كيف يعود؟
وعندما يُقدِم شهرُ رمضان يكون معه تغيُّر في حياة الإنسان عمَّا تعوَّدَه، فهو شهرٌ ليس كباقي الشُّهور، ومع هذا التغيُّر يقفُ الإنسان ليُجدِّد حياته وليُجدِّد إيمانه.
عن أنسٍ - رضِي الله عنه - قال: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ لربِّكم في أيَّام دهركم نفحات؛ فتعرَّضوا لها، لعلَّ أحدَكم أنْ يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبدًا))[1].
فرمضان سيِّد الشهور، وتاجٌ على مفرق الأيَّام والدُّهور.
مَن رُحِم في رمضان فهو المرحوم، ومَن حُرِم خيره فهو المحروم، ومن لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم.
أَتَى رَمَضَانُ مَزْرَعَةُ العِبَادِ لِتَطْهِيرِ القُلُوبِ مِنَ الفَسَادِ فَأَدِّ حُقُوقَهُ قَوْلاً وَفِعْلاً وَزَادُكَ فَاتَّخِذْهُ لِلْمَعَادِ فَمَنْ زَرَعَ الحُبُوبَ وَمَا سَقَاهَا تَأَوَّهَ نَادِمًا يَوْمَ الحَصَادِ |
أخي الكريم، مرحبًا بك في شهر رمضان لتبدأ عامًا إيمانيًّا جديدًا يُحبَّب إليك فيه الإيمان، ويُزيَّن في قلبك، ويُكرَّه إليك في الكُفر والفسوق والعصيان.
ولكنْ وقفة يا أخي:
لقد جاءك هذا الشهر، وكان معك في عامك الماضي أناسٌ يَأكُلون ويشربون ويتمتَّعون بالحياة كما أنت الآن، ولكنَّك لا تجدهم معك الآن، قد صرَعَهم الموت وصاروا في ظُلمة القُبور تحت الثَّرى، وقد مدَّ لك في أجلك لتُدرِك رمضانك هذا، فهل لك أنْ تُحاسِب نفسك؟ فأنت الآن بين عُمرين: بين عُمرٍ قد مضى وبين عُمر قد بقي.
كم ممَّن أمَّل أنْ يصوم هذا الشهر فخانَه أمله، فصار فيه إلى ظُلمة القبر! كم من مستقبلٍ يومًا لا يستكمله، ومؤمِّل غدًا لا يُدركه! إنَّكم لو أبصرتم الأجل ومسيرَه أبغضتم الأمل وغُروره.
أين ما كان معكُم في رمضان الماضي؟ أمَا أفنَتْه المنون القواضي؟ أين مَن كان يُصلِّي التراويح في الظُّلَمِ؟ سافَر عن داره منذُ زمان ولم.
أيها الغافل، اعرف زمانك، يا كثيرَ الحديث فيما يُؤذِي احفَظْ لسانك، يا مسؤولاً عن أعماله اعقل شأنك؟ يا مُتلوِّنًا بالزلل اغسِل بالتوبة أدرانَك، يا مكتوبًا عليه كل قبيح تصفَّح دِيوانك.
يَا ذَا الَّذِي مَا كَفَاهُ الذَّنْبُ فِي رَجَبٍ حَتَّى عَصَى رَبَّهُ فِي شَهْرِ شَعْبَانِ فَاحْمِلْ عَلَى جَسَدٍ تَرْجُو النَّجَاةَ لَهُ فَسَوْفَ تُضْرَمُ أَجْسَادٌ بِنِيرَانِ كَمْ كُنْتَ تَعْرِفُ مِمَّنْ صَامَ فِي سَلَفٍ مَنْ بَيْنِ أَهْلٍ وَجِيرَانٍ وَإخْوَانِ أَفْنَاهُمُ الْمَوْتُ وَاسْتَبْقَاكَ بَعْدَهُمُ حَيًّا فَمَا أَقْرَبَ القَاصِي مِنْ الدَّانِي وَمُعْجَبٍ بِثِيَابِ العِيدِ يَقْطَعُهَا فَأَصْبَحَتْ فِي غَدٍ أَثْوَابَ أَكْفَانِ |
قال الحسن البصري - رحمه الله -: إنَّ العبد لا يَزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسِه، وكانت المحاسبة من همَّته.
وقال أيضًا: ﴿ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 2]: لا تَلقَى المؤمنَ إلا يُعاتب نفسه: ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والعاجز يمضي قُدمًا لا يُعاتِب نفسه.
وقال ميمون بن مهران: "لا يكون الرجل تقيًّا حتى يكون لنفسه أشدَّ محاسبة من الشريك لشريكه".
فلنحذر أنفسنا أنْ نكون مع الهالكين، ولننظُر في صَحائفنا لنَمحُو هذه الذُّنوب ولنشترِ أنفُسَنا ولا نَبِعْها للهوى والمحرَّمات.
قال ابن القيِّم: "يا بائعًا نفسه بهوى مَن حبُّه ضنى، ووصله أذى، وحسنُه إلى فناء، لقد بعتَ أنفس الأشياء بثمنٍ بخس، كأنَّك لم تعرفْ قدْر السِّلعة ولا خسَّة الثمن، حتى إذا قدمت يوم التغابن تبيَّن لك الغبن[2] في عقد البيع".
اعرفْ قد ما ضاعَ، وابكِ بُكاءَ مَن يَدرِي مِقدار الفائت، واعلم أنَّ محاسبة النفس هي طريق السالكين إلى ربهم، وزاد المؤمنين في آخِرتهم، ورأس مال الفائزين في دُنياهم ومَعادهم.
فما نجا مَن نجا يوم القيامة إلا بمحاسبة النفس ومخالفة الهوى "فمَن حاسب نفسه قبل أنْ يحاسب خَفَّ في القيامة حسابُه، وحضَر عند السؤال جوابُه، وحسن مُنقَلبه ومآبُه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادَتْه إلى الخزي والمقت سيئاته"[3].
الأمر بمحاسبة النفس:
وقد ورد الأمر بمحاسبة النفس في القُرآن الكريم:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
قال الحافظ ابن كثير: "قوله ﴿ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ [الحشر: 18]؛ أي: حاسِبُوا أنفُسَكم قبل أنْ تُحاسَبوا، وانظُروا ماذا ادَّخرتم لأنفُسِكم من الأعمال الصالحة ليوم مَعادِكم وعرضكم على ربكم"[4].
وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 8].
قال محمد بن جرير الطبري: ثم ليَسألنَّكم الله - عزَّ وجلَّ - عن النعيم الذي كُنتم فيه في الدنيا ماذا عملتم فيه؟ ومن أين وصلتم إليه؟ وفيمَ أصَبتُموه؟ وماذا عملتم فيه؟
قال ابن القيم: "فإذا كان العبد مسؤولاً ومحاسبًا على كلِّ شيء حتى على سمعه وبصره وقلبه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسؤولاً ﴾ [الإسراء: 36]، فهو حقيقٌ أنْ يُحاسِب نفسه قبل أنْ يُناقَش الحساب"[5].
أنواع المحاسبة:
قال ابن القيم - رحمه الله -[6]: "ومحاسبة النَّفس نوعان: نوع قبل العمل، ونوع بعده:
فأمَّا النوع الأوَّل: فهو أنْ يقفَ عند أوَّل همِّه وإرادته، ولا يُبادر بالعمل حتى يتبيَّن له رُجحانه على تركه.
قال الحسن - رحمه الله -: "رحم الله عبدًا وقف عند همِّه، فإنْ كان لله مضى، وإنْ كان لغيره تأخَّر".
النوع الثاني: محاسبة النفس بعد العمل، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: محاسبتها على طاعةٍ قصَّرت فيها من حقِّ الله، فلم يُوقِعْها على الوجه الذي ينبغي.
وحقُّ الله تعالى في الطاعة ستَّة أمور، وهي:
الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول فيه، وشُهود مشهد الإحسان فيه، وشُهود منَّة الله عليه، وشُهود تقصيره فيه بعد ذلك كلِّه.
فيحاسب نفسه: هل وفَّى هذه المقامات حقَّها، وهل أتى بها في هذه الطاعة.
الثاني: أنْ يحاسب نفسَه على كلِّ عملٍ كان تَرْكُه خيرًا له من فِعلِه.
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباحٍ أو معتادٍ، لِمَ فعله، وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحًا، أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.
وجماع ذلك: أنْ يحاسب نفسه أولاً على الفرائض، فإنْ تذكَّر فيها نقصًا تدارَكَه إمَّا بقضاء أو إصلاح.
ثم يُحاسِبَها على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية.
ثم يُحاسِبَ نفسه على الغفلة، فإنْ كان قد غفل عمَّا خلق له تداركه بالذِّكر والإقبال على الله تعالى.
ثم يحاسبَها بما تكلَّمت به أو مشت إليه رجلاه أو بطشت يداه، أو سمعَتْه أذناه، ماذا أردت بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أيِّ وجه فعلته؟ فالأوَّل سؤالٌ عن الإخلاص، والثاني سؤال عن المتابعة؛ قال تعالى: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الحجر: 92].
وقال تعالى: ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأعراف: 6].
وقال تعالى: ﴿ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 8].
فإذا سئل الصادقون وحُوسِبوا فما الظنُّ بالكاذبين؟!".
فوائد المحاسبة:
قال ابن القيم[7]: "وفي محاسبة النفس عدَّة مصالح:
1- الاطِّلاع على عيوبها، ومَن لم يطَّلع على عيب نفسه لم يمكنْه إزالته، فإذا اطَّلع على عيبها مقَتَها في ذات الله تعالى.
فعن أبي الدرداء قال: "لا يفقه الرجل كلَّ الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدَّ مقتًا".
وقال مطرف بن عبدالله: "لولا ما أعلم من نفسي لقليت نفسي".
وقال أيوب السختياني: "إذا ذُكِرَ الصالحون كنت عنهم بمعزلٍ".
وقال يونس بن عبيد: "إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم في نفسي منها واحدة".
وقال محمد بن واسع: "لو كان للذنوب ريحٌ ما قدر أحد يجلس إليَّ".
وعن ابن عمر أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "اللهم اغفِرْ لي ظلمي وكُفري، فقال قائل: يا أمير المؤمنين، هذا الظلم، فما بال الكفر؟! قال: إنَّ الإنسان لظلوم كفَّار".
وعن عقبة بن صهبان الهمداني قال: "سألت عائشة - رضي الله عنها - عن قول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [فاطر: 32]، فقالت: يا بُنيَّ، هؤلاء في الجنَّة؛ أمَّا السابق بالخيرات فمَن مضى على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - شهد له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالجنَّة والرزق، وأمَّا المقتصد فمَن اتَّبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأمَّا الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم، فجعلت نفسَها معنا!".
فالنفس داعيةٌ إلى المهالك، ومُعِينة للأعداء، طامحة في كلِّ قبيح، متَّبعة لكلِّ سوء، فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة.
فالنعمة التي لا خطر لها: الخروج منها، والتخلُّص من رقِّها، فإنَّها أعظم حجاب بين العبد وبين الله تعالى، وأعرف الناس بها أشدهم إزراءً عليها ومقتًا لها.
2- ومن فوائد المحاسبة للنفس أنَّه يعرف بذلك حقَّ الله تعالى، ومَن لم يعرف حقَّ الله تعالى، فإنَّ عبادته لا تكاد تُجدِي عليه، وهي قليلة النفع جدًّا.
فمن أنفع ما للقلب النظر في حقِّ الله على العِباد، فإنَّ ذلك يُورِثه مقتَ نفسه، والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتحُ له بابَ الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربِّه، واليأس من نفسه، وأنَّ النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإنَّ من حقِّه أنْ يُطاع فلا يُعصى، وأنْ يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر".
ما الذي يعين على المحاسبة؟
يعينه على هذه المحاسبة أمور:
1- معرفته أنَّه كلما اجتهد في المحاسبة اليوم استراح منها غدًا؛ إذ صار الحساب إلى غيره، وكلَّما أهملها اليوم اشتدَّ عليه الحساب غدًا.
قال عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه -: "حاسبوا أنفسكم قبل أنْ تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أنْ تُوزنوا، وتهيَّؤوا للعرض الأكبر، يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافية".
وقال الحسن البصري: المؤمن قوَّام على نفسه يُحاسِب نفسه لله - عزَّ وجلَّ - وإنما خَفَّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شَقَّ الحساب يوم القيامة على قومٍ أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.
2- ويُعِينُه عليها أيضًا معرفته أنَّ ربح هذه التجارة سُكنَى الفردوس والنظَر إلى وجه الله سبحانه، وخسارتها دخول النار والحجاب عن الربِّ تعالى، فإذا تيقَّن هذا هانَ عليه الحساب.
قال إبراهيم التيمي: مثَّلت نفسي في الجنة آكُل من ثمارها وأشرب من أنهارها، وأُعانق أبكارها، ثم مثَّلت نفسي في النار آكُل من زقُّومها، وأشربُ من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أيْ نفس، أيَّ شيء تريدين؟ قالت: أريدُ أنْ أُرَدَّ إلى الدنيا، فأعمل صالحًا، قال: قلت: فأنت في الآمِنين فاعمَلِي.
3- ويعينه على ذلك أيضًا سماع سِيَرِ الصالحين ومُحاسبتهم لأنفُسهم؛ ففي سيرتهم ما يعينُ على شحْذ الهمة بالسير في ركابهم حتى يلحق بهم.
طريقة المحاسبة:
وقد مثلت النفس مع صاحبها بالشَّريك في المال، فكما أنَّه لا يتمُّ مقصودُ الشركة من الرِّبح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولاً، ثم بِمُطالعة ما يعمل، والإشراف عليه ومُراقبته ثانيًا، ثم بِمُحاسبته ثالثًا، ثم يمنعه من الخيانة رابعًا، فكذلك النَّفس يُشارِطها أولاً على حِفظ الجوارح.
ثم ينتقلُ بعد ذلك إلى مُراقَبتها والإشراف عليها.
فإذا وجد منها نُقصانًا انتقل إلى المحاسبة، ثم بعد ذلك يستدركُ هذا النقصان حتى لا تتَمادى عليه نفسُه.
ويُوضِّح لنا الغزالي في "الإحياء" حديثًا مع النفس لهذه المشارطة والمحاسبة فيقول: "يقول - أي: العبد - للنفس: ما لي بضاعةٌ إلا العمر، ومتى فني فقد فني رأس المال، وهذا اليوم الجديد قد أمهلَنِي الله فيه وأَنساني أجَلِي، وأنعم عليَّ به، ولو توفَّاني لكنتُ أتمنى أنْ يرجعني إلى الدنيا يومًا واحدًا حتى أعمل صالحًا، فاحسبي أنَّك قد تُوفِّيت ثم قد رُدِدتِ، فإيَّاكِ ثم إيَّاكِ أنْ تُضيِّعي هذا اليوم، فإنَّ كلَّ نَفَسٍ من الأنفاس جوهرة.
ويحك يا نفس! إنْ كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أنَّ الله لا يراك، فما أعظم كُفرَك! وإنْ كان مع عِلمك باطِّلاعه عليك فما أشدَّ وَقاحتك وقلَّة حَيائك؟!
أتَظُنِّين أنَّك تُطِيقين عَذابَه! جرِّبي إنْ ألهاك البطر عن أليم عذابه فاحتَبِسي في الشمس، أو قرِّبي أصبعك من النار.
ويحك يا نفس! كأنَّك لا تؤمنين بيوم الحساب، وتظنِّين أنَّك إذا مُتِّ انفلتِّ وتخلَّصت، وهيهات!
أمَا تَنظُرين إلى أهل القبور، كيف كانوا جمعوا كثيرًا وبنوا مشيدًا، وأمَّلوا حميدًا، فأصبَح جمعُهم بورًا، وبُنيانهم قبورًا، وأمَلُهم غُرورًا.
ويحك يا نفس! أمَا لك به عِبرة؟! أمَا لك إليهم نظرة؟! أتظُنِّين أنهم دُعُوا للآخِرة وأنت من المخلَّدين؟! هيهات هيهات! ساء ما تتوهَّمين.
أمَا تَخافين إذا بلغت النفس منك التَّراقي؟!
فانظُري يا نفس بأيِّ بدن تقفين بين يدي الله، وبأيِّ لسانٍ تُجيبين، وأعدِّي للسؤال جوابًا، وللجواب صَوابًا.
واعمَلِي في أيَّامٍ قِصار لأيَّام طوال، وفي دار زوال لدار مقامة.
اعمَلِي قبل ألاَّ تعمَلِي، وتقبَّلي هذه النصيحة، فإنَّ مَن أعرَضَ عن الموعظة فقد رضي بالنار، وما أراك بها راضية"[8].