انبيكت لحواش: سحر البداوة، وألق المدينة (صور جميلة)
- التفاصيل
- المجموعة: الداخل
- نشر بتاريخ السبت, 21 تشرين2/نوفمبر 2015 15:58
إنها إنبيكت لحواش حيث الرمال الذهبية الآسرة، والسماء الفضية الصافية، وشجيرات الطلح والغضا و"الطرفة" المتناثرة، والهدوء والصمت المخيمان على القرية -المدينة منذ زمن بعيد..
حيث الأعرشة المهللة، المتناثرة بين الكثبان كتناثر حبات الفستق فوق أديم مخرق أصفر، أعرشة في صناعتها الكثير من الحرفية، فظهرها شديد التقوس والارتفاع، وجوانبها تكاد تلامس الأرض، وبابها ضيق الجانبين، يصعب حتى على الذين لا يشبهون حبيبة عمرو بن كلثوم الخروج أو الولوج منه:
"وبهكنة يضيق الباب عنها *** وكشح قد جننت به جنونا"..
طرزت من الداخل تطريزا حسنا بألوان متعددة.. نسجتها يُدِيُّ ماهرة لتتناسب مع طبيعة قاسية، تكثر فيها الزوابع والعواصف ولم لا.. وهي بحر من الرمال طام بعضه يتحرك فوق بعض..
خيام مسطحة الشكل نصبت على عيدان مقوسة تشبه "إخطير كبنت" القديمة، لمن كان يذكر "أم إخطير" (404)..
حيث الصحراء في أبهى حلة، ولا شيء غير الصحراء المستوية المتشابهة.. أذكر أني سرت فيها مرة رفقة الزملاء بحثا عن "إعزيب البل"، بالقرب من القرية - المدينة، وكدنا نضل لتساوي الأرض، وتشابه معالمها، فهي بحر من الرمال لا ساحل له، تتراءى لك فيه نار تشب لمقرورين يصطليانها في ولاته أو في مكان أبعد منها، أو نيران للجن، فقد حاك أهل المنطقة عن الجن فيها الكثير من الحكايا.. صحراء يضل فيها القطا الكدري، كما يضل فيها الشنفرى خريت الصعاليك:
"وخرق كظهر الترس قفر قطعته *** بعاملتين شكله ليس يعمل"..
أعذرني يا سيد الصعاليك فلو كان قدر لك أن تسير في صحراء "إنبيكت لحواش" لضللت الطريق، ومت ظمأ كما ضلها ومات ظمأ الحاكم ورفاقه من قبل..
حيث البدو الرحل والرواحل والمطي، والنساء الممتطيات لظهور الجمال، "والجحفه، وأجف"..
حيث الأبعرة ورباعيات الدفع في سباق محموم مع الزمن، وهم يتبارون فوق كثبان استساغت خف البعير ولم تستسغ بعد عجلة السيارة، إلا أن التعارف بات محتوما..
لاشيء يعكر هدوء وصفو هذا المكان سوى أزير رياح عاتية تحمل في طياتها بعض الأتربة الصافية، وثغاء شاء أو رغاء بعير، أو أزيز محرك رباعية دفع تغالب الكثبان، أو هينمة باعة يبتاعون ويشترون كل يوم ثلثاء، يوم الحج الأكبر عند هذه المدينة - القرية، وهو ما يصطلحون عليه محليا بيوم "الصوك"، وهو يوم مشهود ومجموع له الناس، فترى الكل ليلة الثلثاء من كل حدب ينسلون إلى سوق المدينة، بعضهم أمتطى رباعيات الدفع قادما من المدن المجاورة ك"النعمة وباسكنو وفصالة وولاته وآمرج وحتى تمبدغه"، والبعض الآخر أمتطى جمله أو حتى حماره قادما من "العزبان" والقرى المجاورة للقرية - المدينة، "كالعرش، وحاسي أهل حدمين، والبطنان، وحاس أهل باب، وإنخيل ، وإتويف، وإظليم، وإزريبه"، وما أدراك ما إزريبه!! إنها فلم رعب خاصة لنا نحن جماعة الطبشور، فما زال صدى قصة معلمها - حسب إحدى الروايات - الذي انتحر أمام القصر حرقا ترن في آذان الجميع، ورائحة شوائه تزكم الأنوف؛ فيصبح لهذه الجماعات أزيز كأزيز رياح "إنبيكه" العاتية، وهمهمة وحركة دؤوبة كجن ذي الرمة:
"هَنا وهِنا ومن هُنا لهن بها *** ذات الشمائل والأيمان هينون"..
فتتوحل القرية - المدينة من صمت أسبوعي كصمت القبور، إلى خلية نحل في هذا اليوم، "لدن أشرقت حتى تضمنها البحر"..
فلا تخطئ عينك وأنت تتجول في يوم "الصوك" أنواع البضائع، وأشكال الباعة رجالا ونساء، شيبا وشبانا، زرافات ووحدانا، حيث ترى البداوة في أبهى صورها، فترى "إملاحف إنيله، والتبيب، وإتغرب، والرواحل، وآكراز (بتفخيم الزاي)، وأجف، وحتى الخلخال، وأكافه" أما إذا حادثتهم فستسمع عجبا!! عبارات لن تستطيع مادتك الرمادية فك طلاسمها، وحركات غريبة وعجيبة!!، خفة على الأرض، وسرعة في التحرك، وتلفت أثناء الكلام، ورفع للصوت في صحراء شاسعة متسعة اتساع أرض المحشر، كل شيء غريب في هذه البلاد، حتى طريقة سلامهم تختلف عن طريقة السلام العادي، فقد أضافوا هم عبارات ومصطلحات للقاموس العادي للسلام، فهي "ماركة مسجلة لساكنة اظهر" كما يسمَّون.. فما بالك بالكلام العادي!! فللمسميات تسميات لم نعهدها، ولم تخترق طبلة آذاننا من قبل مثل: " إتبخه (الوركه)، اباللَّ (السيوه)، إمانه (كوتشو)، الزبدية (الجيرة)، القرقة (الخبطه)، والظو (النار)، القامة (نزلة البرد)" وللأمانة فأنا مصاب بها الآن، لشدة برد هذه المنطقة، فقد اجتمعت عليها الأضداد، كما اجتمعت على جسم الجاحظ، فيها برد "سبيريا"، وحر الجزيرة العربية، وقد جمعت بذلك بين الشمال والجنوب والشرق، ففيها برد الشمال، وسدى الجنوب، وحر الشرق..
حيث البداوة والتمدن، فهي لا تملك من مقومات التمدن إلا الشبكة الكهربائية، والحنفيات ذات الماء العذب الزلال، فبحيرة "إظهر" هي البحيرة الوحيدة في الحوضين التي تصلح للشرب، أما ما سواها فماؤه ملح أجاج، لا يصلح للشرب إلا من باب {إِلَّا مَا اضطُرِرتُم لَهُ}، والمنشآت الحكومية كالمستوصف والابتدائية - الاعدادية، والحالة المدنية، ودار الأساتذة والمعلمين، و"رزو" موريتل على ضعف فيه، فهو كثير الانقصاع، رديئ الخدمة.. أما ما سوى ذلك فأعرشة، وخيام، وساكنة بلغت في التبدي الطبيين..
من صفحة الأستاذ محمد المامي أحمدو