ولد بوحبيني يدعو المعارضة لأيام تفكيرية لوضع رؤية للتغيير (رسالة)
لماذا أوجه رسالة إلى المعارضة دون النظام؟.. لأنني، ببساطة، كنت، على مدى ست سنوات أمضيتها نقيبا للمحامين، أبعث إلى النظام بالرسائل الواضحة والرمزية، الصريحة والضمنية. وقد ساهمت عباءتي خلال افتتاح السنة القضائية الماضية في توثيقها، وكانت كل رسائلي إلى النظام تتضمن طموحا مشروعا لبلدي الذي يحتاج إلى ديمقراطية أصدق وعدالة أعمق ومساواة أشمل، عسى نطوي صفحة الأنظمة الأحادية وندخل البلاد في عهد ديمقراطي قوامه العدل والتناوب السلمي على السلطة.
وهكذا كنت وما زلت غير مرتاح لوضعية حقوق الإنسان في البلد، وغير مرتاح لمستوى التعددية، ولا أرضى لنفسي بالوقوف مكتوف الأيدي أمام هذا الواقع. إنه موقف لا يتزعزع، عبرت عنه مرارا وأؤكده اليوم وغدا كما بالأمس. وكعادتي، لم أتراجع أبدا عن أي موقف اتخذته. وبالتالي لا حاجة لي في أن أبعث برسالة إلى نظام كانت كل تصرفاتي تجاهه رسائل مقروءة بوضوح وغير قابلة للتأويل.
وقد حصل لي الشرف العظيم بترؤس منتدى الديمقراطية والوحدة في الأشهر الماضية، وهي فرصة التقيت فيها بالأخوة الأفاضل من زعماء المعارضة وقادتها عن قرب، مما زادني أملا في أن تصل المعارضة إلى هدفها وغايتها، التي هي توطيد الديمقراطية والتناوب السلمي على السلطة، ومكنتني هذه الرئاسة كذلك من أن أطلع عن قرب على المعوقات التي تمنع المعارضة من الوصول إلى هذه الغاية وتحول دون تحقيق هذا الهدف.
لقد اطلعت على نواقص المعارضة والمكابح التي تمنع عجلاتها من الدوران. واقتنعت أن السكوت على تلك العوائق خطأ سياسي وتمالؤ ضمني مع واقعها المر الذي تسعى الأنظمة إلى ترسيخه لتظل المعارضة مجرد آلية لإضفاء المصداقية على المسلسلات الديمقراطية المغلوطة القائمة منذ التسعينات. ومن الواضح لكل محلل اقترب من الطيف المعارض أن عيوبه لم تزل تشكل عائقا أمام بلوغه لهدفه المنشود، لكنها عراقيل ونواقص وعيوب يمكن التغلب عليها، وأول خطوة جادة نحو التغلب عليها تكمن في الاعتراف بها ووعيها، فالمعارضة تملك الرجال والنساء والجماهير والتاريخ والتضحيات، بما يكفي لتجاوز الخلافات ووضع رؤية مشتركة قابلة لإمالة الكفة لصالحها. ونحن ندرك جيدا أن ذلك لن يتأتى إلا في حالة توحيد الرؤى وتوحيد الإستراتيجية، فاستراتيجية البعض تقوم على التأزيم من أجل تهيئة الوضع للانفجار بواسطة انقلاب عسكري أو ثورة شارع. ليس ثمة مشروع سياسي في الأمر، وبالتالي يتحتم إيجاد مشروع موحد.
إذن فالمعارضة لن تحقق الكثير قبل النظر في ذاتها لترى مكامن الخلل. فهي إن لم تتجه إلى رص صفوفها وتوحيد استراتيجيتها سيظل النظام يلهو برميها، بين الفينة والأخرى، بمُسَلـّــيات سياسية "كالمأمورية الثالثة" وغيرها من المواضيع التي يلوح بها لتنشغل عنه بالرد بالمسيرات وبالمهرجانات بدل الإنكباب على حل خلافاتها والاتفاق على وضع خطة موحدة.
لقد قلت في خطاب تسليم مهام الرئاسة الدورية لمنتدى المعارضة والوحدة أنني "مصر على أنه من واجبنا تجاه المعارضة أن نجعلها تفهم بأن لها مشاكلها البنيوية الخاصة بها، وأن لديها نواقصها الكثيرة، وأنها، مثل السلطة، تكره ذكر عيوبها. لقد كنت وسأبقى على قناعة تامة أن الشجاعة لا تقتصر فقط على مواجهة النظام بقول الحقيقة، بل تعني أيضا مواجهة المعارضة بقول الحقيقة والدفع بها إلى القيام بما يلزم من مراجعات ونقد ذاتي هي في أمس الحاجة له".
وأعتقد أن الكثيرين داخل المعارضة وخارجها يشاطرونني هذا الطرح الذي لا يهدف إلى المس من المعارضة، ولا التقليل من شأنها-معاذ الله - وإنما هي رؤية منطلقة من واقع واضح للعيان لا لبس فيه، مؤداه أن المعارضة لم تنجح قط في اقتناص فرص الانتقال إلى الديمقراطية وتحقيق التناوب السلمي، وقد أخطأت كل المنعرجات التي كان من الوارد أن تؤدي إليها.
هذا الواقع يتعين أولا الاعتراف به، كما تتعين ثانيا دراسته وتحليله، لمعرفة أسبابه،وللتغلب عليه، فهذه العملية التقييمية معروفة في كل الأحزاب والتنظيمات السياسية في العالم، فكلما أخفق حزب في معركة سياسية انتخابية أو غير انتخابية، بادر إلى تشخيص الحالة ودراسة الأسباب والعوامل المؤدية إليها، ثم الاعتراف بها، ووضع إستراتيجية لتفاديها مستقبلا، وبالتالي يتجنب تكرار الأخطاء من جهة، ويعيد بعث الأمل في جماهيره التي أحبطت بسبب الإخفاق من جهة ثانية.
صحيح أن هذه الإخفاقات التي منعت المعارضة من تحقيق التناوب السلمي على السلطة –والتي سميناها واقعا لا يمكن غض الطرف عنه- لا يجوز تحميل المعارضة مسؤوليتها كاملة، إذ لاشك أنه ثمة عوامل خارجية ساهمت في هذا الوضع بقوة، فمن المعروف أن الديمقراطية في دول عالمنا الثالث باهتة، نابتة في أحضان العسكر، تتنازعها عوامل تجعلها سطحية، دعائية، جل ممارستها للاستهلاك الخارجي، أكثر منها نظام حكم داخلي. ومن تلك العوامل مثلا أن شعبنا تنتشر فيه الأمية والفقر بنسب كبيرة، مما يجعله غير قادر بالضرورة على ممارسة الاختيار الانتخابي الحر، لأنه معرض لإكراهات ضغط السلطة ترغيبا وترهيبا، ودفع القبيلة إقداما وإحجاما، وجاذبية المال السياسي وقدرته على تحقيق المصالح الشخصية، وسد الحاجات اليومية. هذه العوامل الخارجية - بلا شك - تتحمل جزءا من مسؤولية عدم نجاح المعارضة في الوصول إلى السلطة وتحقيق التناوب السلمي على السطلة طيلة العقدين الماضيين، لكن الذي يتعين أن تعترف به المعارضة، ومن يرغب ويطمح في نجاحها، أن هذه العوامل الخارجية، واكبتها عوامل داخلية، تتحمل المعارضة نفسها مسؤوليتها.
فكلنا يتذكر كيف أن المعارضة دخلت سنة 2009 انتخابات لم تهيئ لها الظروف، ففشلت فشلا ذريعا، وقاطعت الانتخابات سنة 2014 مقاطعة لم تكن مؤثرة، وجميعنا يتذكر أنه في مرحلة ما، عندما أصبح الرئيس أحمد ولد داداه قاب قوسين أو أدنى من الوصول للسلطة، تراجع عنه فصيل من المعارضة مما سبب إخفاقه، وحين أراد الرئيس مسعود ولد بلخير دفع المعارضة إلى حوار شامل، منعته فصائل من المعارضة ووقفت في وجهه، وفي مرحلة أخرى وإبان قوة المنسقية وعزها، خرق حزب تواصل إجماعها معتبرا أن المشاركة الانتخابية هي الأكثر حكمة سياسيا، ولما صلــُـب عودُ المنتدى، وأصبح يملك القدرة على الحوار من موقف قوي، أحجم حزب التكتل عنه، وأضعف من موقفه.
كل هذه السيناريوهات مازالت واردة، والأسئلة المطروحة الآن هي: هل أخذت المعارضة العبرة وفهمت الدرس التاريخي، واستخلصت النتيجة التي بموجبها ستتفادى تكرار مثل هذه الأخطاء؟ وهل راجعت المعارضة نفسها ؟ وما الذي يمنع أن تكون المشاركة الانتخابية للمعارضة مثل مشاركتها سنة 2009، متى ما قررتها؟ وكيف نضمن أن تكون مقاطعة المعارضة للانتخابات فاعلة وذات أثر قوي عكس الماضي؟ إننا نعتقد أن هذه الإخفاقات لم تدرس بما يكفي، ولم تحصن المعارضة نفسها منها بعد، فالأخطاء - مهما كانت - تتحول ايجابية متى ما استفاد أصحابها منها، وجعلوها دروسا.
ونحن بطبيعة الحال ندرك اختلاف الأحزاب السياسية في الرؤى والمشاريع والأساليب والأولويات، غير أنه لابد من اتفاقها - ولو مرحليا - في الطرح العام الذي من خلاله يُفرض التغيير المنشود، وبعد ذلك يسعى كل حزب في نهجه الخاص، كما فعلت المعارضة السنغالية مثلا، فالجماهير التي وقفت مع المعارضة، وتستجيب لها في كل نداء، إنما تتوق للتغيير، وهي قوة كبيرة ستكون مهدورة، ما لم تحقق المعارضة باستجابتها وبحماسها الكثير، فهي لم تذهب بجماهيرها إلى الشارع من أجل الدفع باتجاه الثورة الجماهيرية - التي لا نراها حلا بطبيعة الحال - ولا هي استخدمتها في صناديق الاقتراع من أجل فرض التغيير الديمقراطي.
فالمعارضة الاستعراضية التي تكتفي بحشد الجماهير في الساحات لساعات ثم ينفض حشدها دون إحداث أثر، إنما تخدم النظام من حيث لا تدري، فيستخدمها للتسويق لديمقراطيته التعددية المزعومة، والترويج للحرية التي يدعي أنه يصونها.
وبخصوص الحوار - متى ما كان النظام على استعداد له لأنه هو من يعرقله حاليا مستخفا بشركائه- فإنه يعتبر، بطبيعة الحال، الحل الأمثل لتسوية شاملة لا غالب فيها ولا مغلوب، أعني ذلك الحوار الذي يجمع ولا يفرق، يبني ولا يهدم، يحل الأزمة ويؤدي إلى انفراج يضمن تغييرا هادئا لا خسائر فيه. لأن مثل هذا الحوار سيسمح بجعل الفترة ما قبل 2019 فترة تحضيرية مشتركة، توضع فيها الضوابط وتنشأ المؤسسات الكفيلة بتحقيق الانتقال الديمقراطي السلس، وبدون هذا التحضير المسبق، لن يكون للمعارضة موطئ قدم في المستقبل الانتخابي القريب في ظل مؤسسات الإشراف الأحادية، وسيكون الخيار إما الانقلاب أو استمرار النظام بطريقة أو بأخرى.
والحوار لم يكن يوما موقفا سلبيا مجردا، وكل الحوارات التي مرت بها الطبقة السياسية في مختلف مراحل تاريخها - على علاتها - أسفرت عن نتائج إيجابية للجميع وللديمقراطية، وإن كان التزام السلطة بمخرجاتها باهتا في كل الأحوال، بدءا بالحوار الذي حققه اتحاد قوى التقدم، وفرضه على النظام - وكان حوارا مهما في فترة عصيبة، سنة 2000، فأسفر عن بطاقة التعريف غير القابلة للتزوير، وانتهاء بحوار سنة 2011 الذي كانت من مخرجاته التعديلات الدستورية.
إذن مجمل القول أنه لابد من عمل تصحيحي واستراتيجي وتكتيكي موحد، آخذا بعين الاعتبار أخطاء الماضي، وموجدا الحلول اللازمة من أجل تفادي تكرار الأخطاء، وهو عمل يبدأ بالضرورة بقبول أنه ثمة أخطاء تتعين مراجعتها، وأن من يقول بذلك لا يعني أنه يكره المعارضة أو يهرول نحو النظام، فهدف النقد الداخلي إنما هو الرغبة في تقوية المعارضة. لكن وقفة التأمل المطلوبة لم تتم بعد، والعبر من الماضي لم تؤخذ بعد، ومعلوم أن نفس الظروف، إن تكررت، تعطي نفس النتائج.
إنني أتمنى أن تلتئم المعارضة في أيام تفكيرية لتتفق على ميثاق شرف وعلى صيغ للتغيير البناء وفق رؤية واضحة وموحدة آخذة بعين الاعتبار الوضعية الإقليمية المتمثلة في تنامي ظاهرة الإرهاب في المنطقة، وما يترتب عليها من مخاطر محدقة، والوضعية الوطنية المتسمة بالاستقطاب العرقي، والاصطفاف الشرائحي، التي تمثل تحديات يتطلب التعامل معها شيئا من الحكمة والحنكة، بحيث تسمح للبلد بالتقدم نحو التغيير دون حدوث هزات تشكل خطرا على كيان الدولة والمجتمع