موريتانيا… القوة الناعمة للفن في مواجهة عنف السلطة
نواكشوط ـ من جمال مصطفى عمر ـ فيما لا يزال الفنان في موريتانيا جزءا من الديكور السياسي والاجتماعى، يسعى الجيل الجديد من الفنانين الشباب الى تبنى مواقف سياسية مستقلة تأخذ من الالتزام الاجتماعي منطلقا لها مثل فرقة ” أولاد لبلاد” التي تزعج النظام.
للمرة الثانية في تاريخ موريتانيا الحديث يجد الفنان نفسه في مواجهة النظام السياسي الحاكم،فمنذ تجربة الفنانة “المعلومة منت الميداح” في معارضتها لنظام الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد احمد الطائع نهاية التسعينات وما ترتب على ذلك من محاصرتها داخليا لعدة سنوات ،تأتى اليوم تجربة فرقة “أولاد لبلاد” التي ظهرت على مسرح الفن قبل سنوات قليلة ،من خلال تقديمها لتجربة الفن الثائر أو موسيقى الهيب هوب ،حيث استطاعت هذه الفرقة التي تتألف من ثلاثة شباب (اسحق،محمد،حماده) تقديم أغاني تسخر من تدهور الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية كان آخرها أغنية أطلقتها الفرقة قبل أشهر بعنوان كيم(ارحل )طالبوا فيها برحيل النظام الحاكم مستخدمين عبارات قوية في نقد شخص رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز وطريقته في الحكم.
اتهام بالمضايقة
السلطة الحاكمة وإن كان لم يبد منها أي رد فعل رسمى تجاه فرقة الهيب هوب فإن حادثة اعتقال حماده ولد سيدي أحد أفراد الفرقة في 13 يناير الجاري واتهامه باغتصاب فتاة وحيازة المخدرات اعتبره زملائه استهدافا مباشرا يعكس طريقة غير مباشرة لمضايقتهم .
وجاء في حديث لزميله إسحق سيدي ابراهيم (اسحق آيس)خلال مؤتمر صحفي نظمه 15 يناير الجاري”اعتقال زميلنا حماده لا يعدو كونه انتقاما مباشرا بسبب أغنية (كيم) التي تطالب برحيل النظام،فقد تعرضنا في وقت سابق للتهديد بدفع ثمن موقفنا على يد ابن الرئيس عندما رفضنا تقديم أغنية تمجد الرئيس والنظام خلال مشاركتنا في النسخة الأخيرة من مهرجان المدن القديمة التي احتضنتها مدينة شنقيط ما بين 5-11يناير 2015″.
وأضاف الفنان: “نحن لا نقدم للجمهور سوى الأغانى التي تعكس قناعتنا ولهذا تعرضنا للابتزاز خلال العديد من الاجتماعات على يد مقربين من الرئيس…والتهمة الموجهة الى زميلنا حمادة مجرد فبركة”.
الفرقة أصدرت نهاية الاسبوع الماضي من العاصمة السنغالية داكار أغنية جديدة تتضامن فيها مع عضوها المعتقل،وهاجمت الحكومة الموريتانية متهمة اياها بفبركة الاتهام ضد زميلهم.
متابعون للشأن العام في موريتانيا يرون بان فرقة “أولا لبلاد” استطاعت أن تخرج للجمهور الموريتاني بنمط فنى جديد تمكن من استقطاب جمهور واسع معظمه من الطبقات المسحوقة ولهذا باتت تمتلك أداة قوية للتأثير على الرأي العام من خلال أغانيها التي تتناول واقع الفقراء والفساد وغياب البنية التحتية وهو صوت لاشك يخشاه النظام الحاكم ،على حد قول الصحفي والمحلل السياسي بشير ولد ببانه.
قوة الخطاب وبساطته
وأضاف بشير ببانه خلال حديثه لDWعربية: “لاشك أن فرقة أولاد لبلاد تمثل ازعاجا للنظام الحاكم بسبب مواقفها الجريئة والسباقة الى اقحام الفن في السياسة ،لكن موقف الفرقة من الشأن العام والحمولة الفنية لأغانيها يمكن فهمها في السياق العام الذي خرجت فيه موسيقى الهيب هوب إلى العالم وهي إسماع صوت المهمشين والمسحوقين،وقد استطاع ثلاثي فرقة (أولاد لبلاد) توظيف ذلك الخطاب الفنى في مجتمع تنتشر فيه الأمية والفقر والحساسيات الاجتماعية”.
لكن المحلل ببانه يرجع قدرتهم على التأثير إلى نمط الخطاب واللغة البسيطة والمباشرة التي يمررون عن طريقها أغانيهم.
وإذا فهمنا أن الخزان الانتخابي الذي أوصل مختلف الأنظمة الحاكمة في موريتانيا إلى القصر تمثله عامة الشعب من البسطاء لأدركنا ببساطة قوة الخطاب الفني المعارض وتأثيره على نظام سياسي يحتاج إلى المزيد من المشروعية في أعين معارضيه وبعض الموالين له ،فضلا عن المواطن المسحوق ماديا واجتماعيا.
مسألة أخرى غيرت ميزان القوى في الساحة الفنية الموريتانية خلال العشرية الأخيرة وهي ميلاد جيل جديد من الفنانين من خارج دائرة الطبقة الاجتماعية الفنية التي ظلت تحتكر الفن لعدة قرون باعتبارها جزءا من المكون الاجتماعي الموريتاني ،هذا الجيل جاء نتاجا للتغييرات الاجتماعية والسياسية التي فرضتها ثورة التقنية والانفتاح على العالم الخارجي ما ساهم في خروج جيل جديد متعلم ومنفتح من طبقة الفنانين التقليديين والأسر الفنية التقليدية ،وبالتالى أصبح من المستساغ الى حد ما أن يتقبل المجتمع كل من يمتلك صوتا وأداء فنيا قادرا على المنافسة خصوصا وأنه يعتمد على أساليب مبتكرة للتحصيل المادي بعيدا عن التغني بأمجاد القبيلة وإنعاش حفلات المناسبات الاجتماعية الضيقة.
وينبه الباحث الاجتماعي عبدو ولد محمد لـDWعربية إلى نقطة تعزز ذلك الطرح عندما يقول”بات من الملاحظ أن الفنان في موريتانيا كان في السنوات الماضية مجرد بوق للمتنافسين السياسيين (نظاما ومعارضة)حيث كان للنظام فنانون يتغنون بإنجازاته وللأحزاب المعارضة فنانونها ،وفي أغلب الأحيان كان نفس الفنانين يؤدون نفس الدور في الحملات الانتخابية لصالح الاطراف المتنافسة مقابل الحصول على المال”.
فنانون متعلمون
لكن الجديد اليوم يضيف عبدو ولد محمد هو” امتلاك بعض الفنانين لمواقف سياسية نابعة من قناعتهم وباتوا يدافعون عنها خاصة بالنسبة لفرقة أولاد لبلاد التي لا يمكن أن تنطبق عليها معايير الانتماء القبلى أو الاجتماعي لجهة محددة ومن هنا تأتى قوة تأثير خطابهم”
الشارع الموريتاني يكاد لا يختلف حول تأثير هذه الفرقة خصوصا في أحياء الفقراء والطبقات المهمشة ،إذ بات من المألوف أن يردد أطفال أحياء الضواحي أو أبناء الشارع كلمات أغنية لفرقة أولاد تتعاطف مع المسكين أو تنتقد احتكار طبقة الأغنياء للسيارات الحديثة او الفيلاهات الراقية .
ويقول مولود ولد عبد محمد بائع متجول”فرقة أولاد لبلاد تغنى بلهجة مفهومة وبسيطة ومعبرة عن واقعنا كفقراء وبالتالي من الطبيعي أن نتعاطف معها”
ويقول سيدي ولد أمبارك عامل يدوي”عندما أستمع إلى أغنية المسكين لفرقة أولاد لبلاد أشعر بأن هؤلاء الشباب ينتمون لنفس طبقتى ويتقاسمون معي نفس الواقع،وعندما يرددون في أغنيتهم …نواكشوط ألا الوسخ …لا أمتلك إلا أن أتعاطف معهم لأنهم يتحدثون بصدق”.
لكن الشيخ محمد حرمة كاتب يقول بأنه من المبالغة القول بأن السلطات الموريتانية تستهدف فرقة فنية شبابية عن طريق تلفيق تهمة لأحد أفرادها.
ويرى الشيخ محمد حرمة أن الأمر لا يعدو كونه اعتقالا لشاب متهم في قضية ما ،وستحدد المحكمة حقيقة تلك التهمة خلال الأشهر القادمة.
واختتم بالقول”مادام البعض يتحدث عن مضايقة النظام لأعضاء فرقة أولاد لبلاد لأنهم أصدروا أغنية تنتقده ،فلماذا لا يتذكر أولائك أن نفس الفرقة أصدرت أغاني مؤيدة للنظام في وقت سابق”.(دوتشيه فيليه)