نبذة تعريفية بشيخ القراء الشيخ سيدي عبد الله بن أبي بكر التنواجيوي
إذا أردنا أن ننزل الشيخ سيدي عبد الله بن أبي بكر التنواجيوي منزلته الحقيقية نقول باختصار أنه نقل الواقع العلمي والثقافي لبلاد التكرور من طور المحدودية إلى طور الانتشار الواسع ,ومن طور الاكتفاء بالمبادئ الأساسية في التعليم والتعلم إلى طور التعمق والتخصص، في مجالات عدة من العلوم الشرعية واللغوية ، وقد امتد تأثيره على مجال جغرافي واسع، عرف تاريخيا ببلاد التكرور التي حدها مؤلف كتاب فتح الشكور محمد بن أبي بكر الصديق البرتلي الولاتي المتوفى 1219هـ ، بقوله (والتكرور إقليم واسع ممتد شرقا إلى آدغاغ ومغربا إلى بحر بني الزناگية وجنوبا إلي بيط وشمالا إلى آدرار، وبهذا التحديد يتضح لنا أن تأثير هذا الرجل كان كبيرا بوصفه شمل رقعة جغرافية واسعة من غرب إفريقيا ولعل كلمة صاحب فتح الشكور في ترجمته للرجل تعد اهم دليل على كم المستفيدين على يد هذا العلم البارز ، حين قال: (وأنتفع على يده خلق كثير كانو أئمة يقتدى بهم) وقد خصص مؤلف الفتح الترجمة رقم 200 في كتابه لهذا الشيخ الجليل قائلا(هو الشيخ الأمام الفقيه المقرئ النحوي اللغوي المتفنن العالم العلامة وحيد دهره وفريد عصره حامل لواء السبع أبو محمد سيدي عبدالله بن ابي بكر التنواجيوي رحمه الله تعالى كان رحمه الله تعالى احد الأعلام المشهورين ,والائمة المذكورين جد في طلب العلم وبلغ الغاية القصوى رحل الى قطب زمانه ولي الله تعالى سيدي احمد الحبيب اللمطي السجلماسي ,وقرأ عليه السبع بل أزيد من السبع ولاأدري هل قرأ بالقراء العشر فقط ,أم بأزبد منها وقرأ كثيرا من الفنون والفقه والنحو وغيرهما، وأتى بخزانة نفيسة ووجد الناس يلحنون في القراءة ويصحفون في الحروف ، فأزال اللحن والتصحيف عنهم ولاسيما مسألة الجيم المشهورة ، وصحح القرآن وجوده وقصده الناس وأنتفعوا به، وأنتفع به خلق كثير فصاروا أئمة يقتدى بهم ,جعل الله بفضله ذلك حسنات وضياء في القبر ودرجات في الآخرة انتهت إليه رئاسة الإقراء في بلاد التكرور في زمانه وبعد صيته كان رحمه الله تعالى إماما جليلا فخرا من مفاخر النجباء بحر لا تكدره الدلاء ، محييا للسنة مميتا للبدعة ,جامعا لعدة علوم منها القرآن ,والحديث ,والفقه ,والعربية وغير ذلك برع في الفقه ورسخ فيه وفي العربية وفنون شتي ما رأيت أحسن نقلا ولا أكثر اطلاعا علي المسائل منه له فتاوي في الفقه تدل علي وسع باعه وكثرة اطلاعه يدعم الجواب بالنصوص الصريحة والنقول المعتمدة يفسر الشاطبية والخلاصة ومختصر خليل رحمه الله تعالي أخذ القراءات عن الولي الصالح المقرئ المتفنن سيدي احمد الحبيب عن فلان عن فلان قرأ عليه الطالب صالح التنواجيوي والمختار بن عمر بن الحاج الطيب والخضر والياس ابني الفقيه محمد بن الحاج عثمان وعمر بن محمد بوه الأيلي وغيرهم مما لا يكاد يعد وأخذ عنه شيخنا الفقيه سيدي أحمد بن موسي بن ايگل الزبيدي رحمهم الله تعالي توفي رحمه الله تعالي عام خمسة وأربعين ومائة والف).
إن هذه الترجمة التي عقدها صاحب أهم كتاب تراجم في البلد لهذا الشيخ كفيلة بلفت انتباه الباحثين الي مكانته العلمية كرائد للنهضة الثقافية في منطقة غرب الصحراء وجوارها من السودان الغربي خلال النصف الاول من القرن الثاني عشر هجري ففي هذه الترجمة اشارات مهمة تدل علي انه كان له الفضل في انتشار الاسانيد القرآنية وعلم القراءات والتجويد وانه لعب دورا كبيرا في تعميق هذه المعارف المتخصصة وغيرها لدي النخب العلمية في الصحراء كما لعب دورا بارزا في تعريب المنطقة فكانت جهوده في مايعرف اصطلاحا بقضايا ملاحن القراء بمثابة دروس في الفصاحة والنطق السليم لللغة العربية وشكلت نوازله في هذا المجال مثارا مهما لقضايا ومساجلات علمية وفكرية ولغوية اثرت الساحة الثقافية في المنطقة وأسست للتعمق في علوم النحو واللغة والبلاغة واتي بخزانة كتب عظيمة رسخت تقليد اقتناء الكتب وولدت حركة منقطعة النظير في مجال نسخها وتداولها وتعميم مافيها من فوائد وجعل ثقافة اقتناء الكتب والمخطوطا ت ثقافة شائعة في محيطه الاجتماعي ولدي تلاميذه وتلامذتهم ويشير صاحب فتح الشكور الي ذلك في سياق ترجمته لاحد أكبر من ورثواعن شيخ القراء علمه وهو الطالب أحمد بن محمد راره التنواجيوي الذي انفق علي شراء الكتب واستجلابها نزرا غير قليل من ماله.
وعلي الرغم من اختفاء الكثير من آثار الرجل والاهمال الكبير من قبل الباحثين في مجال تناوله كاحدي الشخصيات العلمية البارزة في الصحراء والمؤسسة لتقاليد المحظرة الشنقيطية التي اثارت اعجاب وانتباه علماء المشرق ودارسي الحضارة الاسلامية من المستشرقين لكونها المؤسسة التقليدية البدوية الوحيدة التي استطاعت أن تقدم العلوم الاسلامية والعربية باستيعاب ومنهج عجزت عنه أرقي الجامعات والمعاهد الاسلامية.
الا انه في هذا الجانب تجدر الاشارة الي بعض الجهود والاعمال العلمية لبعض الباحثثين المعاصرين في حقل التاريخ الثقافي للبلد الذين استطاعوا أن يظهروا جوانب مهمة من حياة هذا العلم نذكر منهم علي سبيل المثال لا الحصر الدكتور محمد المختار بن اباه في كتابه تاريخ المشرق والمغرب حيث اعترف لهذا العلم بدوره الرائد في تأسيس المحظرة القرآنية قائلا (ان تأسيس مدارس قرآنية لم يتم في شكل منتظم ومتواصل الا بعد رجوع التنواجيوي من تافلالت ومنذ ذلك العهد انطلقت حركة نشاط تدريس هذا العلم وازدهرت في عدة مناطق من شرق اقليم شنقيط).
كما ناقش الدكتور عبد الودود بن عبد الله (ددود )آراء الشيخ سيدي عبد الله بن أبي بكر التنواجيوي حول مسألة الجيم واعتبر أن ما ساقه حولها يعتبر من المناظرات الفكرية والعلمية المهمة في القرن الثاني عشر هجري الثامن عشر ميلادي وخصص لنقاش آراء الرجل في المسألة واهم الردود عليه عدة صفحات من كتابه "الحركة الفكرية في بلاد شنقيط حتي نهاية القرن 12ه 18م وفي مقاله "الفقيه والمجتمع في الحواضر الصحراوية محمد يحي الفقيه ومجتمع ولاته نموذجا "اعتبر ددود أن الشيخ سيدي عبد الله التنواجيوي يعتبر ممن اثرت الرحلة في مسارهم الفكري ورجعوا بدعوات اضافت جديدا الي الساحة الفكرية في المنطقة.
وفي أطروحته موريتانيا في الذاكرة العربية أورد الدكتور حماه الله ولد السالم مايشير الي استحسان علماء مصر لفتاوي ونوازل التنواجيوي التي أطلعهم عليها بعض الحجاج القادمين من بلاد التكرور اثناء مقامهم في مصر في طريقهم الي الحج.
ومن الجهود الجبارة التي بذلها الباحثون في تتبع آثار شيخ القراء تلك الاضافة النوعية التي جاء بها الدكتور يحي بن البراء في عمله القيم "المجموعة الكبري لفتاوي غرب وجنوب غرب الصحراء "حيث ترجم له في الجزء الخاص بالتراجم ترجمة أضافت معلومات جديدة حول الرجل وأكملت بعض النقص في ترجمة صاحب فتح الشكور كما أنه أورد له بعض النوازل المهمة في أجزاء الموسوعة الاخري كما أشار الي كونه يعد من أوائل العلماء الذين نشروا سند الفرع الناصري من الطريقة الشاذلية التي انتشرت بجهوده هو وبعض معاصريه من العلماء في أوساط المتعلمين ومن المعروف أن شيوخ هذه الطريقة كما يشيرالي ذلك عبد الودود ولد عبد الله (ددود)في الحركة الفكرية كانوا الي جانب البعد الصوفي فقهاء متمكنين كما كانوا ينتقون مريديهم فلا يعطون الاوراد الا لمن اطمأنوا الي علمه وورعه وتشير بعض المصادر التاريخية الي أنه كان مهتما بشؤون عصره حيث أنه يعد من الفقهاء الذين عملوا علي تكوين تحالف قبلي بين قبائل منطقة الحوض وقف في وجه بعض الممارسات التي كان يقوم بها باشوات الرماة من بقايا جيش السعديين في منطقة الحوض والساحل واستطاعوا أن ينهوا سيطرتهم نهائيا علي المنطقة فاتاحوا بذلك الفرصة لسلاطين أولاد أمبارك الذين دخلوا هذا التحالف وحكموا منطقة الحوض بقيم العدل والسلم والامان فأزدهرت التجارة وعم الرخاء وأزدهرت الثقافة والعلم وعادت المنطقة الي سابق عهدها في التحالف بين السلطة والفقهاء ايام مملكتي مالي والسونغاي الاسلاميتين.
وعموما فان محظرة الشيخ سيدي عبد الله بن ابي بكر التنواجيوي لم ينقطع عطاءها بوفاته سنة 1145هج بل ان لواء ومشعل العلم فيها ظل منيرا من خلال تلميذه سيدي محمد بن عبد الله بن بابا ثم ابرز تلامذة تلمذه الطالب أحمد بن محمد راره رحمهم الله ويشير صاحب فتح الشكور الي ذلك في ترجمته للطالب أحمدبن محمد راره رحمه الله قائلا frown رمز تعبيري أخذ القراءات السبع "يعني الطالب أحمد "عن سيدي محمد بن عبد الله بن بابا ابن سيد القراء في بلدنا )ويشير صاحب الفتح في جزء آخر من نفس الترجمة الي الجهد الكبير في التدريس والمكثف في هذه المحاظر خاصة محظرة الطالب أحمد التي تعد احدي المحاظر التي ورثت منهج مؤسس المحظرة القرآنية في بلاد التكرور الشيخ سيدي عبد الله بن ابي بكر التنواجيوي قائلا عن صاحبها (كان اكثر عبادته اقراء القرآن العظيم وتعليم الناس العلم انتفع به كثير من الطلبة .... وكان معمر الاوقات بالتعليم ربما يقرئ التلاميذ قبل صلاة الصبح ثم بعد الصلاة يشتغل بأوراده الي حل النفل ويصلي ركعتي الضحي ثم يجلس للتعليم الي قرب الزوال فينام نوما خفيفا ثم بعد الصلاة يشتغل بالتعليم الي صلاة العصر ثم يشتغل به بعدها الي أذان المغرب .... واذا كان ثلث الليل الاخير يقوم فيركع ويشتغل بالتعليم الي الصبح).
ويعد هذا المقطع من ترجمة الطالب أحمد في فتح الشكور مقطعا مهما يوضح أن هذا التكريس المكثف للوقت من قبل مشائخ المحاظر في الانقطاع للتعليم هو الذي رسخ عادة الحفظ للمتون نتيجة تكرارها الدائم كما احتوت الترجمة علي صور من عطف هذا الشيخ علي تلاميذه والانفاق عليهم من ماله وهي قيم ظل مشايخ محاظر هذه البلاد يزرعونها في طلاب العلم الي اليوم.
وفي الختام أود أن انبه كل الفاعلين في الحقل الثقافي الي ضرورة الاهتمام بهذا الشيخ وامثاله وتكثيف الدراسات حول آثارهم العلمية وسيرهم الذاتية وبخصوص سيدي عبد الله بن أبي بكر التنواجيوي فأرجوأن لاتمر ذكري مؤويته الثالثة التي تفصلنا عنها سنوات قليلة دون ان تستوقف المهتمين بالشأن الثقافي لتكون عنوان ندوة علمية حول هذا الشيخ البارز وحول آثاره العلمية وآثار أبرز تلاميذه الآخذين عنه.
والله الموفق للصواب واليه المرجع والمآب
قائمة المصادر والمراجع
1- أبي عبد الله الطالب محمد بن أبي بكر الصديق البرتلي الولاتي ـ فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور ـ تحقيق: محمد إبراهيم الكتاني ومحمد حجي ـ دار الغرب الإسلامي ـ الطبعة الثانية2007
2- بن البراء(يحي) ، المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوي ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء ، الناشر الشريف ملاي الحسن بن المختاربن الحسن، انواكشوط 2009.
3- ولد أباه (محمد المختار)، تاريخ القراءات في المشرق والمغرب,الطبعة الثانية – منشورات المنظمةالاسلامية للتربية والثقافة والعلوم، المغرب 2004
4- ولد السالم(حماه الله) ، موريتانيا في الذاكرة العربية ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت 2005
5- بن حامد (المختار)، حياة موريتانيا ، ج2 ، الحياة الثقافية ، الدار العربية للكتاب، ( د. ت)
6- بن حامد(المختار)، حوادث السنين، تحقيق سيد أحمد ولد أحمد سالم ، دار الكتب الوطنية ، أبو ظبي 2011
7- عبد الودود بن عبد الله (ددود)؛ الحركة الفكرية في بلاد شنقيط حتي نهاية القرن الثاني عشر 18م ؛مركز الدراسات الصحراوية ؛دارابي رقراق ؛الرباط 2015
الشيخ ابراهيم ولد آكيه
8- عبد الودود بن عبد الله (ددود)؛مقال بعنوان :(الفقيه والمجتمع في الحواضر الصحراوية محمديحي الفقيه ومجتمع ولاته نموذجا)موقع الطوارئ الاخباري.
9- الشيخ ابراهيم بن آگيه ؛مقال بعنوان :(سيدي عبد الله بن ابي بكر التنواجيوي بين اختفاء الاثر واهمال الباحثين )موقع الوسط الاخباري ؛وموقع نوافذ؛وموقع القافله؛ وموقع ميدان انفو