الاسترقاق في موريتانيا.. واقع مرير ليس عصيا على المعالجة
- التفاصيل
- المجموعة: تقارير
- نشر بتاريخ الإثنين, 22 أيلول/سبتمبر 2014 09:06
تعدّ قضية الرق، وما يمكن أن تتسبب فيه من آثار سلبية، أحد أكبر المشاكل التي تهدد المجتمع الموريتاني في بنيانه والدولة في كيانها، إن لم يكن أخطرها على الإطلاق، إذا لم تقم الدولة بواجبها في حماية مواطنيها ومعالجة هذه الظاهرة من خلال إشاعة المساواة وكف التمييز الذي يفرّق ويشتت ولا يساعد على البناء إطلاقا.
قضية الاسترقاق في موريتانيا، التي مازالت قائمة حدّ اليوم، تذكّر بما عاناه “العبيد” و”الحراطين” (تسمية تطلق على الذين حصلوا على حريتهم حديثا) في البلاد من ظلم تاريخي وقع عليهم خلال قرون من الزمن، وخطورة ذلك الظلم أنه وقع باسم الدين.
لقد تعالت الأصوات من هنا وهناك للتنبيه لهذا الخطر وهذا الوضع الذي يعدّ غير طبيعي في القرن الحادي والعشرين، كما أنّ المنظمات الحقوقية دقت ناقوس الخطر مرارا، ووضعت نواكشوط في المرتبة الأولى على “المؤشر العالمي للرق”. فهل وعت الدولة الموريتانية بفداحة هذا التهديد، أم أنّها مازالت تغمض عينيها وتتغاضى عن معالجته؟
كيف تجذر الرق في موريتانيا
تشهد نواكشوط اليوم أشكالا عديدة من الرق والعبودية لا تخفى على أحد، على الرغم من الجهود التي تقول السلطات إنّها تبذلها لاجتثاث هذه الظاهرة الضاربة في القدم، والمشحونة بالاغتصاب والضرب وتقييد الحرية وانتشار أطفال غير معروفي الآباء. واقع دفع بعض المعنيين بمسألة مكافحة الرق إلى إصدار وثيقة أواخر أبريل الماضي باسم “الميثاق حول الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية لأرقاء موريتانيا السابقين (الحراطين)”.
انتشار الظاهرة يدفع نحو التساؤل عن أصولها، التي يرى باحثون، من بينهم الباحث الموريتاني الحسين ولد محنض، أنها بدأت مع انطلاق قانون الغلبة والسيطرة في موريتانيا، الذي يعد أهم روافد الرق. حيث يقول ولد محنض في محاولة منه لتأصيل الفكرة: “لقد مثّلت قبائل إيزكارن شأنها في ذلك شأن أخواتها إيرنكانن، أول روافد الاستعباد المعروف في البلاد، فقد اصطدمت قبائل إيزكارن بأفواج صنهاجة الأولى التي قدمت من بلاد شنقيط مستهل العهد المسيحي، ولا يزال استعباد إيزكارن موجودا في التقاليد المروية حتى اليوم”.
من جهته، يرى الباحث الحقوقي محمد الأمجد ولد محمد الأمين أنّ الثقافة الشعبية للمجتمع الموريتاني بأمثلتها وشعرها الشعبي تعبير عن مثال واضح لترسخ أيديولوجية الاستعباد وما يرتبط به من نظرة تراتبية طبقية. وهذه الأيديولوجية هي وليدة مركب مشترك يتزاوج فيه تراث الممارسات الاسترقاقية البربرية والزنجية والعربية وتاريخها.
حيث يرى، محمد الأمجد، إن عمليات الاسترقاق تواصلت في موريتانيا طيلة القرون الماضية عن طريق الأسر الناتج عن الحروب تارة وعن طريق الخطف والبيع الناتج عن الفاقة والحاجة وتطور النخاسة تارة أخرى.
من جهتهم، يرى متتبعون لهذه الظاهرة التي يعاني منها المجتمع الموريتاني أنّ المستعمر الفرنسي حارب العبودية رمزيا، ومع استقلال البلاد عن فرنسا في 28 نوفمبر 1960، بدأت الدولة بمحاربة الظاهرة. وتعهدت “حركة الحر” من خلال المادة الأولى من ميثاقها بالكفاح الجاد من أجل الانعتاق والمساواة والكرامة والسعادة للأرقاء.
بعد عقدين من الاستقلال، أصدر حكام عسكريون مطلع ثمانينات القرن الماضي القانون المحرم للرق، وساهم ذلك في تحريم الرق، إلا أنّ غياب الترسانة القانونية اللازمة حال دون معالجة الظاهرة بشكل تام، ليأتي أول برلمان تعددي وعلى رأسه أحد الأرقاء السابقين، هو مسعود ولد بلخير، ليصدر بالإجماع قانوناً يجرم ممارسة الظاهرة، وهو القانون الجاري به العمل حدّ الآن.
كما استحدثت السلطات الحالية بدورها، وكالة لمحاربة الاستعباد، وهي جهاز حكومي برتبة وزارة دولة، تقول السلطات إنها ستقوم باجتثاث بقايا الظاهرة وتقف على تنفيذ برامج إنمائية لمصلحة “العبيد” السابقين.
ووسط ارتياح ملحوظ في الأوساط الشعبية التي تدفع دائما نحو الأمل، تباينت آراء الموريتانيين حول قرار الحكومة استحداث هيئة لمكافحة الرق تابعة لرئاسة الجمهورية، حيث نوه بعضهم بها وقال إنّها “خطوة مهمة” في طريق القضاء على آثار العبودية، بينما ذهب آخرون إلى أنها مجرد “تخريجة إعلامية جعلت لغايات سياسية”.
كيف أثر الدين في قضية الاسترقاق
شهدت موريتانيا عهود الرق والاستعباد حتى وقت قريب، وظلت الأسر الموريتانية من مختلف المحافظات تملك “جواري وخدما” يقومون بخدمتها، ويجري توارثهم من طرف أفراد الأسرة كما يتوارث العقار والمال. كذلك كانت تجارة الرقيق مهنة عادية كبيع الجمال والخرفان.
ويرجع الباحثون رفض الموريتانيات دخول المطبخ وإعداد وجبات لعائلاتهن، لأنهن يعتبرن إعداد الوجبات والقيام بالأعمال المنزلية انتقاصاً من مكانتهن وتأثراً بالماضي الذي كان فيه إعداد الأعمال المنزلية من واجبات الإماء.
رغم أنّ البعض يرى أن العبودية في موريتانيا في طريقها إلى الاندثار في صفوف الصغار، إلاّ أن البعض الآخر يقرّ بأنّ المعتقدات تحول دون القضاء عليها في صفوف الكبار، حيث يعتقدون أنها جائزة شرعاً، وهذا الفهم السيّئ للدين يساهم في بقاء الظاهرة.
الدعاة الدينيون الذين يتمسكون بهذه الظاهرة ويشرعون لها، إنما هم انطلقوا من فهم خاطئ لجوهر النص القرآني والسنة اللذين أعليا قيمة حرية الإنسان على كلّ القيم. فالقرآن والسنة ينظران إلى الرق على أساس أنه أمر استثنائي يمكن استخدامه في ظل ظروف معينة ومحدودة، فقط الأطفال من العبيد أو من غير المسلمين من أسرى الحرب يمكن أن يصبحوا عبيدا لكن يمُنَع تماما أن يكون أي طفل مسلم حديث الولادة عبدا لأي شخص.
كما أن الإسلام وضع قانون العتق من العبودية ليكون واحدا من الأفعال الفاضلة العديدة المتاحة لتكفير الذنوب. وهذا ما يغفله هؤلاء الدعاة. ووفقا للشريعة، يعتبر العبيد بشرا ويمتلكون بعض الحقوق على أساس إنسانيتهم. بالإضافة إلى ذلك، المسلمون العبيد يتساوون مع الأحرار المسلمين في القضايا الدينية ويتفوقون على غير المسلمين سواء كانوا أحرارا أو عبيدا.
في هذا السياق، يبرز جوهر التعريف الديني لظاهرة الاسترقاق أنّ العتق أسمى وأرفع من الاسترقاق. غير أنّ العديد من رجال الدين الموريتانيين، مازالوا متشبثين بدعم هذه الظاهرة والتشريع لها، ما حدا بمبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية التي تأسست في شهر أكتوبر 2008 والمعروفة باسم “إيرا”، إلى طلب مناظرة دينية حول الموضوع، داعية الفقهاء إلى أن يناقشوا الموضوع على الملأ، فإن كان لهم ما يثبت أنّ ممارسة الرق في البلاد صحيحة شرعا فليقدموا الأدلة على ذلك، وإذا كان ليس لها ما يسندها في الشرع فيجب أن يعاملوا المسألة كما يعامل المنكر، فالمنكر يجب تغييره خاصة إذا كان فيه ظلم شنيع يمارس على طائفة واسعة من الناس، حسب أصحاب هذا الرأي.
غير أنّ الكاتب محمد سالم ولد محمدو، من جهته، أشار في ما يتعلق بهذه المسألة في كتاب ناقش فيه إشكالية “الرق في موريتانيا وأبعاده الشرعية والسياسية”، صدر عن “المركز الموريتاني للأبحاث والدراسات الإستراتيجية”، إلى أنّ الفقه لم يساير حركة القانون ضد الرق، حيث “نجد ثراء قانونيا في مكافحة الرق يقابله إصرار الفتاوى الموريتانية على مصادرها ورؤيتها التقليدية”، على حدّ تعبيره.
كيف يمكن معالجة الظاهرة دينيا
في مقابل هذا التعنّت الديني، الذي اتسم به عدد من رجال الدين الذين خيّروا دعم الظاهرة عوض التصدي لها، دعت الدولة الموريتانية، مؤخرا، وبالتحديد وزارة الشؤون الإسلامية، كافة منتسبيها إلى المشاركة الفعالة في محاربة أشكال ومخلفات أنواع الرق في ندوة خصصت في ظاهرها لمناقشة مساهمة قطاع الشؤون الإسلامية في القضاء على مخلفات العبودية، بينما يعتبر مراقبون أن السبب الحقيقي لتنظيمها هو رد تهمة تشجيع “فقه النخاسة” عن بعض الأئمة والدعاة التقليديين، وإظهار إسهامات وزارة الشؤون الإسلامية في محاربة الرق، في الوقت الذي تتهم فيه من قبل بعض الحقوقيين الزنوج بمحاباة الدعاة الذين يدرسون المراجع القديمة وما تتضمنه من تأويلات مغلوطة عن الرق في المدارس الدينية.
في هذا السياق عمد عدد من العلماء والأئمة والمفكرين إلى إبراز مساهمة قطاع الشؤون الإسلامية في القضاء على مخلفات الاسترقاق في موريتانيا، وناقشوا بعمق “الاسترقاق كظاهرة قديمة أقر الإسلام التعامل معها بقيمه السامية مع فتح أبواب واسعة للقضاء عليها”، وثمنوا الجهود التي تقوم بها الدولة للقضاء على مخلفات هذه الظاهرة.
من جهته، قال وزير الشؤون الإسلامية والتعليم الموريتاني، أحمد ولد أهل داوود، إنّ الندوة “شهدت مستوى علميا عاليا لم تضمنته من عروض ومحاضرات قيمة ونقاش بناء”، وأشار إلى أنها “ستكون بداية فعلية لبرنامج حافل بالأنشطة الفعالة الهادفة إلى محاربة أشكال ومخلفات الاسترقاق في كل المدن والقرى والأرياف”.
ودعا الوزير كافة منتسبي قطاعه إلى جعل هذه المبادرة أساسا “لصياغة منطلق علمي جاد للمشاركة الإيجابية في دفع مخلفات الاسترقاق”، معبرا عن أمله في أن تمثل المضامين التي تمّ التطرّق إليها تصورا مرجعيا وفكريا يضاف إلى المجهود الهادف إلى إجماع وطني تتم الاستنارة به في القضاء على كافة مخلفات الرق.
هذه الخطوة التي اتخذتها الدولة الموريتانية، رغم تأخرها، ربما تكون كفيلة بالتشجيع على صياغة أرضية فكرية من لدن المنظومة التشريعية الدينية ذاتها، تجابه ظاهرة الاسترقاق وتتصدّى لها. لكنها طبعا ليست المسؤولية الوحيدة المنوطة بعهدتها في هذا الصدد.
ما هي المسؤوليات الأخرى للدولة
الدولة تتحمل مسؤولية كبيرة في كفّ ظاهرة الاسترقاق والتصدي لها، وهذه المسؤولية لا تقتصر طبعا على الجانب الديني الذي يبدو أنها بدأت تتلمس الطريق نحو معالجته واستنباط حلول له كما سبق وأشرنا إليه، بل تتعلّق في جانب من جوانبها بإضفاء العدل التنموي والسياسي وخلق شعور جديد في صفوف من يحس بالضيم من أبنائها قوامه المساواة المبنية على أساس المواطنة.
إنّ الدولة مطالبة بمكافحة الفقر في مناطق الحراطين، ومعاملة أبنائهم على قدر من المساواة مع أبناء المجتمع الموريتاني الآخرين خاصة في ما يتعلق بالمنح الدراسية والوظائف وكذلك تشريك أبناء هذه الفئة في الحكم وتسيير دواليبه، وكذلك السماح لهم بتقلّد المناصب العليا عموما مثل الشركات ونحوها إذا ما توفرت فيهم الكفاءة المطلوبة.
خلاصة القول، على الدولة أن تكون بحق دولة قانون ومؤسسات، تعطي الفرص العادلة لكافة أبنائها وتبتعد عن أساليب الماضي التي تعتمد على النهج القبلي، وتعامل جميع مواطنيها على قدر واحد من المساواة.
بوابة إفريقيا الإخبارية