لا تحاولوا ركوب البحر مثل بقع الزيت..
أظهر تعاطي الحكومة الموريتانية مع ظهور بقع زيت مجهولة المصدر على الشواطئ الموريتانية أظهر نمطا جديدا تماما في تعامل الحكومة مع الشأن العام، فللمرة الأولى لم تقلل الحكومة من أهمية، وحجم الكارثة، بل صورت الأمر كما هو، وتحدث وزير الصيد عن مساحة انتشار البقع، مبينا كل المعطيات، والتداعيات المحتملة، وللمرة الأولى كذلك كان الوزير الأول في موقع الحدث فور وقوعه، يعاين بنفسه الوضع، ويتلمس الأسماك المتضررة، وكأن المهندس ولد حدمين يعد تلك الأسماك النافقة بالثأر لها ممن اعتدى عليها، ولوث البيئة البحرية الوطنية.
دون تطبيل إذا، ولا تضليل تعاملت الحكومة الموريتانية بمنتهى المسؤولية مع كارثة البحر هذه، لم تشأ الحكومة أن تبث الرعب في نفوس المواطنين - كما هي هواية البعض- لكن الشعور بالمسؤولية جعل الحكومة تعلن بكل شفافية حجم هذه الكارثة، وتتعامل معها في الوقت، وبالأسلوب المناسبين، فرضت طوقا أمنيا على الشاطئ، لكن ميناء الصيد التقليدي ظل بحركيته المعهودة، في تأكيد واضح أن الوضع تحت السيطرة، والمراقبة الدائمة.
ومع سرعة تعاطي الحكومة مع هذه الأزمة، إلا أن البعض أبى إلا أن يركب البحر، لتطفو على السطح تعليقات، وكتابات، وآراء، لا تقل في " خبثها" وضررها عن بقع الزيت التي بدأت بالانحسار، تاركة الفرصة لهذه البقع المسمومة لتلوث الذاكرة الجمعية للمواطنين، وتحاول أن تعبث بالحقيقة، والواقع، أكثر مما عبثت بقع الزيت بأسماكنا .
وبينما تنشغل الحكومة - بإشراف ديقيق من الوزير الأول- بمعالجة مخلفات الكارثة البيئية، تنشغل جهات أخرى جاهدة بمحاولة استغلال الكارثة لتحقيق مئارب شخصية، أو النكاية بأطراف معينة، وتلك غاية تبرر أي وسيلة، ولسان حالها يتمنى أن تتفاقم الكارثة، فمصائب الوطن فوائد عند هؤلاء، الذين يصورون نقص كميات الأمطار على أنه بسبب سوء تسيير الحكومة، ويعزون ارتفاع درجات الحرارة إلى تقصير من الجهات الحكومية المعنية، ويرون في بقع زيت مجهولة المصدر فضيحة حكومية كبرى، لا عجب في ذلك، فعندما تعميك المصلحة الشخصية، تصبح الحقائق مقلوبة أمامك، وقديما قال الموريتانيون: " صاحب الحاجة أعمى".. نعم إنه عمى البصر، والبصيرة.
هناك قاعدتان مسلمتان في تقييم أداء الحكومات في جميع دول العالم، إحداهما أن الحكومة ليست مسؤولة عن وقوع الكوارث الطبيعية، لكنها تساءل عن طريقة تعاطيها مع تداعيات الكارثة، بما يقلل الخسائر، ويحاسب المقصرين، والقاعدة الثانية هي أن كل حكومة مسؤولة فقط عن تأمين حدودها البرية، والبحرية، والجوية، وليست مسؤولة عن مراقبة شواطئ الدول الأخرى، أو بحورها، ومحل الاستشهاد هنا أن الحكومة الموريتانية تعاملت بمنتهى السرعة، والصرامة، والشفافية، والمسؤولية مع تداعيات هذه الكارثة البحرية، التي يرجح الجميع أن مصدرها خارج الحدود البحرية الموريتانية.
لقد استيقظ البعض متأخرا، بفعل بقع الزيت هذه ليكتشف أن ثروتنا السمكية " لا تقدر بثمن" ولم ينتبه لذلك عندما كانت رخص الصيد تمنح بالمجان لأشخاص متنفذين يعطونها لبواخر أجنبية تنهب ثروتنا ليل نهار دون رقيب، حينها ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) علما أن رئيس الجمهورية الحالي محمد ولد عبد العزيز أكد أنه لم يمنح رخصة صيد واحدة منذ وصوله للحكم.
وفرت بقع الزيت على شواطئ انواكشوط فرصة ذهبية لكائنات برمائية أوشكت على الانقراض،بفعل إفلاس خطابها، وانتفاء مبررات وجودها، فضخت بقع الزيت دماء جديدة في شرايينها المترهلة، لتهب من جديد، وتعطي " دروس تقوية مجانية" في الوطنية، والنزاهة..، مفارقات عجيبة، بقدرما تُضحك، تُبكي!
لقد نجحت الحكومة في فعل ما يجب أن يفعل، وقول ما ينبغي أن يقال في أزمة بقع الزيت، لتجري رياح المحيط الأطلسي بما لا تشتهيه سفن البعض، ممن كانوا يتمنون أن تتجاهل الحكومة أولا الكارثة، ثم تتكتم على تبعاتها، وأخير تقلل من شأنها عندما تنشر في الصحافة، هكذا كانت حكوماتنا سابقا تتعامل مع مثل هذه الأوضاع، التي دائما ما تمر مرور الكرام دون ضجيج يذكر.
حتى لو سلمنا جدلا بمنطق المهولين من حجم بقع الزيت، فإن المنطق السليم يقتضي تضافر الجهود من الجميع لتجاوز الكارثة، ودرء خطرها، لتحين بعد ذلك ساعة حساب الحكومة، ومتساءلتها، هكذا تفعل النخب المتحضرة، الوطنية، أما محاولة ركوب البحر فبالتأكيد ستنتهي بهؤلاء إلى فشل ذريع، وخيبة أمل، قد لا تقل عن خيبة من يركبون قوارب الموت، ويمخرون عباب البحر طمعا في الفردوس المفقود.
لقد زرت شخصيا شواطئ انواكشوط بعد أكثر من يومين على وقوع الكارثة، وبدت الحياة طبيعية، والإقبال على شراء الأسماك مرتفعا، مع انتشار أمني على طول الشاطئ لمراقبة الوضع عن قرب، لكن من يراقب بعض المنابر الإعلامية يصاب بصدمة، ويخيل إليه أن شواطئنا قد تعرضت لتلف لا يمكن إصلاحه مطلقا، وأن أكل لحم السمك بات من ذكريات الماضي!
أقول لهؤلاء سيظل محيطنا يمدنا بلحم طري، وستنقشع بقع الزيت، لينقشع معها سراب هؤلاء، ووهمهم في تحقيق مكاسب عجزوا طويلا عن نيلها، ويكتشفوا أن ركوب البحر ليس أقل صعوبة، ولا مردودية من بث الأراجيف في البر، إن للبحر ربا سيحميه، وإن للوطن حكومة تسهر على مصالحه، وتتصدى لأي خطر، سواء جاء من البر، أو الجو، أو البحر.
سعدبوه ولد الشيخ محمد.