ولد عبد العزيز.. حصيلة الحكم، ومبررات الترشح/ سعدبوه ولد الشيخ محمد
أشهر قليل تفصلنا عن نهاية المأمورية الأولى لرئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز، حيث لا صوت يعلو هذه الأيام فوق صوت الانتخابات، والاستعدادات لها، بلدية، كانت، أو تشريعية، أو رئاسية، فهي سنة انتخابية بامتياز.
وفي خضم هذا المناخ السياسي المشحون، أظن أن هذه مناسبة لمحاولة إعادة النظر في أبرز ملامح حكم رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز خلال مأموريته الأولى، حيث يمكننا الآن فقط أن نقيم بشكل صحيح، ونحكم بشكل عادل على بعض القرارات التي اتخذها، والخطط التي طبقها، وكانت مثار جدل، وانتقاد، والأحداث كما يقول المؤرخون بحاجة لأن تبتعد عنها مسافة زمنية معينة حتى تستطيع الحكم عليها، أو لها.
أولا.. لا أدعي القدرة على تقديم جرد شامل، أو كشف حساب لأكثر من أربع سنوات من حكم ولد عبد العزيز، ولست بصدد ذلك، إنما سأقدم فقط “ملامح عامة” أو سمات بارزة أراها ميزت حكم ولد عبد العزيز، وتركت بصمتها في تاريخ هذا البلد، وقد يختلف معي البعض في هذه القراءة، – وله الحق في ذلك- وقد يتجاوز البعض الآخر حق الاختلاف المشروع، إلى التصنيف، والتحريف، أو أشياء أخرى لذلك سأحاول أن أقتصر على بعض أهم القرارات التي ميزت حكم ولد عبد العزيز حتى الآن، والتي قد تكون محل إجماع تقريبا.
لقد تعود الموريتانيون على مدى عقود أنهم لا يشاهدون رئيسهم إلا وهو يستقبل، أو يودع، أو يدشن، ولا يسمعون عنه إلا الثناء، والإطراء، ولعل أبرز ما ميز حكم ولد عبد العزيز – على الأقل من الناحية الشكلية- أنه كسر هذا الروتين، وخرج على هذا التقليد المتبع منذ استقلال موريتانيا، حيث شاهد الموريتانيون رئيسهم محمد ولد عبد العزيز في مشاهد مثيرة، وغير مألوفة، وسمعوا عنه على ألسنة بعض المعارضين- من النقد، وحتى الشتم، والسب، والتجريح، ما لم يكن يخطر على بال أنه ممكن الوقوع، ومن هذه المشاهد ما هو مقصود، ومدبر، ومنها ما هو عرضي، وطارئ.
ومن أبرز المشاهد التي تحتفظ بها الذاكرة الجمعية للشعب الموريتاني مشهد رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز، وهو يمشي سيرا على الأقدام، ودون حراسة تذكر في شوارع انواكشوط في بعض المناسبات، مثل ما حصل يوم تدشين الطريق الرابط ما بين نادي الضباط، والعيادة المجمعية، ومناسبات أخرى.
ومن أبرز هذه المشاهد كذلك مشهد رئيس الجمهورية وهو يجلس أمام مجموعة من الصحفيين، يسألونه، بل و “يسائلونه” عن جميع المواضيع، بشكل محرج، ومستفز أحيانا، ويبث ذلك على الهواء مباشرة، في “لقاء الشعب” .
كما بات من المألوف أن تفتح الإذاعة، أو التلفزة الرسميتين، وتسمع ، وتشاهد من انتقاد، وحتى “عيب” الرئيس، أكثر مما تسمع، وتشاهد من مدحه، والثناء عليه.
أما المشاهد العرضية، والطارئة التي يحتفظ بها الموريتانيون عن ولد عبد العزيز في مأموريته الأولى فهي بالتأكيد مشاهده في المستشفى العسكري في انواكشوط، والصور القليلة التي تسربت من مستشفى “بيرسي” في باريس، عندما كان الرئيس يتعالج من آثار الطلق الناري، الذي أصابه بالخطأ، أما أهم، وأشهر إطلالة لولد عبد العزيز فتلك التي أطل بها مع الرئيس الفرنسي “فرانسوا هولاند” بعد أسابيع من القيل، والقال، والتكهنات، والنفي، والإثبات، و”اليمين”.
هذا جزء يسير من الملامح “الشكلية” التي ميزت المأمورية الأولى من حكم محمد ولد عبد العزيز، أما من الناحية الجوهرية فقد كان ولد عبد العزيز رئيسا مثيرا للجدل بحق، تميز بالجرأة في القرارات، والصرامة في التنفيذ، والتجرد، والتحرر من “لوبيات” القبائل، وأهل المال، والجاه.
وسأقدم هنا نماذج قليلة من بعض القرارات، والخطط التي انتهجها ولد عبد العزيز، وتركت أثرها على حياة الموريتانيين، بغض النظر عن من عارضها، أو أيدها. أولا: قطاع الداخلية، والأمن…
لعل أبرز القرارات التي اتخذها ولد عبد العزيز في هذا القطاع هي:
- مشروع الحالة المدنية الجديد، الذي اعتبره بعض من “معارضة كل شيء” مشروعا فاشلا، وطالبوا بالتحقيق فيه، قبل أن يكتشفوا، أو يعترفوا –بالأحرى- أنه كان مشروعا عملاقا، وطموحا، وسيجعل موريتانيا كلها في جهاز حاسوب، بشكل دقيق، ومنظم، يميز الأجنبي، من المواطن، ويضع حدا لفوضوية الحالة المدنية، بعد أن كانت جنسية موريتانيا تباع، وتشترى بعشرة آلاف أوقية.
- في المجال الأمني: استحداث قطاع ” التجمع العام لأمن الطرق” ورغم أنه قطاع مستقل بنفسه، وانتقد بعض من “معارضي كل شيء” إنشاء هذا القطاع، واعتبروه عديم الجدوائية، إلا أن الجميع أصبح يدرك الدور الذي أصبح يؤديه، والفراغ الذي ملأه، علاوة عن توفيره لآلاف فرص العمل للشباب الموريتاني العاطل عن العمل.
- كما تميزت سياسة ولد عبد العزيز في المجال الأمني بمقاربة جمعت بين “حوار القوة” و “قوة الحوار” أحيانا أخرى، فقد جابه نظام ولد عبد العزيز الإسلاميين المسلحين في ساحات المعارك، ونجح في إبعاد خطرهم عن الأراضي الموريتانية، لكنه حاورهم من موقع قوة، عندما كانوا في السجون.
- وفي مجال الدفاع، تميزت سياسة ولد عبد العزيز بإعطاء أهمية خاصة للقوات المسلحة، من حيث المصادر البشرية، والعتاد، وشهد سلاح الجو تحديدا تطورا مهما، رغم بعض الحوادث المؤسفة، كما يعكف النظام الموريتاني على إعادة هيكلة شاملة للجيش بشكل غير مسبوق.
- قطاع الشؤون الإسلامية
- لقد انتهج ولد عبد العزيز سياسة جديدة في هذا القطاع، حولته من قطاع منسي، وشكلي، إلى وزارة من أهم الوزارات، وشكل افتتاح إذاعة القرآن الكريم، وقناة “المحظرة” وطباعة مصحف موريتاني، واكتتاب مئات الأئمة كموظفين رسميين، يتقاضون رواتب منتظمة، بعد أن كانوا “متسولين”عند أبواب، ومكاتب الوزارة، شكلت هذه القرارات أبرز ملامح سياسة ولد عبد العزيز في هذا القطاع.
- قطاع الإعلام، وحرية التعبير
تميز أسلوب نظام ولد عبد العزيز بسياسة “الأبواب المفتوحة” حيث فتح وسائل الإعلام العمومية لجميع الآراء، وسن قانون “منع الحبس في قضايا النشر” فاسحا المجال لحرية التعبير، والرأي، كما حرر الفضاء السمعي البصري، للمرة الأولى في البلاد، واتبع أسلوب “الاحتواء” بدل “الصدام” مع المعارضين، سياسة أتت أكلها، ليس فقط في تحسين صورة موريتانيا خارجيا، بل كذلك سحبت البساط من تحت أقدام المعارضين، وحرمتهم من أوراق رابحة كانوا يستخدمونها ضد الأنظمة السابقة.
ثانيا: القطاعات الخدمية
إذا أردنا أن نتحدث بصراحة، وواقعية علينا أن نعترف بأن ولد عبد العزيز خصص الكثير من الأموال، والجهد، والوقت لقطاعات خدمية عديدة، بعضها شهد تطورا كبيرا، وأصبحت استفادة المواطنين منه بادية بشكل لا ينكره إلا مكابر، مثل قطاع: البنية التحتية، حيث عمت الطرق المعبدة معظم شوارع العاصمة، وعواصم الولايات، بشكل انعكس إيجابا على حياة المواطنين، وأعطى وجها جديدا للعاصمة، وعواصم الولايات، ومعظم هذه الطرق تم إنجازه في آجال قياسية، ووفق معايير فنية عالية الجودة، ودليل ذلك بسيط هو أن الطرق التي تم تشييدها حديثا في انواكشوط لا تستقر عليها المياه، عكس الطرق القديمة التي تحولت في كثير من الأحيان إلى بحيرات، واختفت معالمها بفعل الأمطار، فقطاع التجهيز والنقل يعتبر من أكثر القطاعات نجاحا، وخدمة للمواطنين خلال السنوات الماضية، باستثناء بعض المشاكل في النقل البري.
ومن القطاعات الخدمية كذلك التي عرفت قفزة غير مسبوقة: قطاع الإسكان والعمران، والاستصلاح الترابي، فمشروع تخطيط الأحياء العشوائية في انواكشوط يعتبر أكبر إنجاز تشهده العاصمة منذ إنشائها، وسرد الأدلة على ذلك مجرد مضيعة للوقت، وتوضيح للواضح، قد يزيده إشكالا.
إذا فقطاعات الداخلية، والدفاع، والشؤون الإسلامية ، والتجهيز والنقل، والإسكان والعمران، من أبرز القطاعات التي شكلت قاطرة النجاح في مأمورية الرئيس ولد عبد العزيز الأولى.
لكن المفارقة هي أن هناك قطاعات أخرى أنفق فيها من الأموال ما يفوق هذه القطاعات، ومع ذلك لم تشهد تطورا يذكر، مثل قطاع الصحة، وقطاع التعليم، رغم أهمية هذين القطاعين!! وبين النجاح، والإخفاق هناك منطقة وسطى قد تصنف فيها بعض القطاعات أبرزها قطاع “العدل” الذي لازال يتلمس طريقه نحو الإصلاح.
ثالثا: السياسة الخارجية:
تميزت السياسة الخارجية لنظام ولد عبد العزيز بالجرأة، والوضوح، والانفتاح على دول، وقارات جديدة، أصبح العلم الموريتاني يرفرف على أراضيها، بعد إقامة علاقات دبلوماسية معها، مثل: البرازيل، وإيران…ودول أخرى. بيد أن أهم قرار في سياسة ولد عبد العزيز الخارجية يبقى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وطرد سفيرها، ومشهد الجرافات وهي تسوي بالأرض مبنى السفارة الإسرائيلية في انواكشوط سيبقى محفورا في ذاكرة الموريتانيين. قرار عدم المشاركة في الحرب التي قادتها فرنسا في مالي شكل محطة بارزة في السياسة الخارجية لنظام ولد عبد العزيز، هذا فضلا عن أدوار إقليمية قامت بها موريتانيا، خصوصا في أزمتي ساحل العاج، وليبيا.
وإذا أردنا أن نلخص أسلوب ولد عبد العزيز في الحكم خلال هذه السنوات، فنقول إنه كان “خروجا على المألوف” في جميع المجالات، وهذا الخروج، وتلك الجرأة، والصرامة التي امتلكها ولد عبد العزيز أغضبت في كثير من الأحيان، مناصريه قبل معارضيه، وزجت ببعضهم في السجون، لكن الإنصاف يقتضي منا أن نعترف أن ولد عبد العزيز نجح خلال أربع سنوات فقط في نقل موريتانيا إلى صدارة الدول العربية، والإفريقية في مجالات مختلفة، فبعد أن كانت موريتانيا تتصدر الدول العربية في مجال الشعر، والانقلابات العسكرية فقط، أصبحت موريتانيا الأولى عربيا في مجال حرية الإعلام، والأولى إفريقيا في مجال سلامة النقل الجوي، ناهيك عن تصدرها في مجالات أخرى، و احتلالها مكانة متقدمة.
كما يحسب لولد عبد العزيز أنه نجح في قيادة البلاد في ظرف حساس، كانت تعترضه فيه معوقات ظن البعض أنها ستنهي حكمه، وقد تدخل البلاد في المجهول، أبرز هذه التحديات: ما يسمى بالربيع العربي، والوضع الصحي لولد عبد العزيز نفسه، ليتفاجأ الجميع أن ولد عبد العزيز يخرج دائما من كل أزمة أقوى، على الصمود، بل ومواصلة المشوار