ذكر محاسن الميت.. الجائز، والممنوع !
ذكر محاسن الميت من الأخلاق الرفيعة، فهو عرفان بالجميل، وفعل نبيل، وخلق أصيل في الأمة الإسلامية، ينفع الميت، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:" أنتم شهداء الله في أرضه، من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار" وفي الحديث كذلك: "اذكروا محاسن موتاكم".
كما أن ذكر محاسن الميت فيه من تسلية أهل الميت، وتطييب خاطرهم، وتطمينهم على فقيدهم ما قد يخفف عنهم من صدمة موت الحبيب، صحيح أنه لا أحد يملك الجنة حتى يمنح ضمانات لأحد بدخولها، أو يعطيه صكوك غفران لذنوبه، ولا أحد كذلك يملك النار ليعذب بها من يشاء، كل ذلك بيد رب العالمين، وهو وحده غفور رحيم، وشديد العقاب، رحمته وسعت كل شيء، لكن علينا أن نستحضر أنه تعالى:( لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض) فإغلاق باب رحمة الله بعد أن فتحه رب العباد على مصراعيه غير وارد، والحكم على مصائر العباد تجاوز لصلاحيات العبد، إلى ما هو خاص بالله تبارك وتعالى، وفي الحديث القدسي: (حدثنا صَالِحُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ وَرْدَانَ ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَالَ رَجُلٌ : وَاللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَليَّ أنْ لا أَغْفِرَ لِفُلانٍ ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ".
كما أن الحكم على الشخص بدخول النار بناء على أنه كان يرتكب بعض الذنوب في حياته هو حكم سابق لأوانه –كما يقال- ذلك لأنه جاء في الحديث الشريف المعروف:( وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع... إلى آخر الحديث) فأي مسلم مات لا يشرك بالله شيئا، يصلي، ويصوم، ويؤدي فرائضه، فمصيره إلى الله، نتمنى له الرحمة، ونسأل الله أن يبدل سيئاته حسنات، لا نزكيه على الله، ولكن لا نحرمه من رحمة الله بجرة قلم !.
هذا من الناحية الشرعية، أو التأصيل الشرعي لمسألة ذكر محاسن الميت، أما من جانب العادات المجتمعية عندنا في موريتانيا فأعتقد أن الأمر يحتاج لمراجعة، وتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة، فلقد أصبحنا نضرب المثل بذكر محاسن الميت على أنه أمر روتيني يأتي متأخرا دائما، وفي الوقت الضائع فنقول في المثل الشعبي:" ذاك ألا شكر الميت" فإذا كان هذا الشخص الميت بهذه الصفات الحميدة ما الذي يمنعنا من أن نعترف له بمكانته، وقدره، ونـُنزله منزلته وهو لا يزال حيا يرزق ؟؟ لماذ نغبطه حقه، ونقزم دوره، ونتنكر له وهو بيننا، حتى إذا رحل بالموت نبدأ بذكر ما فيه، وما ليس فيه من المحامد ؟؟!.
إن علينا أن نعترف لأهل الفضل بفضلهم وهم أحياء، فقد نـُقل عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( أنزلوا الناس منازلهم) كما أن ذكر محاسن الشخص وهو حي يرزق قد يفيده بأن يتمسك بها، ويزيد فيها، ويكون قدوة حسنة لغيره، أما ذكر محاسنه بعد وفاته فلا يستفيد منه شيئا، وإلا لكانت المرثيات تـُدخل من قيلت فيهم الجنة.
لكن الأسوأ في الأمر هو أن يسلك البعض مسلكا معاكسا بأن يستفيض في ذكر مساوئ الأموات، خاصة إذا كان لا يجرؤ على ذكرها وهم أحياء، فهذا الأمر – فضلا عن مخالفته للشرع- يعبر عن قمة الجبن، والخسة، والوقاحة، فقد قال جل من قائل:( وقولوا للناس حسنا) صدق الله العظيم. كما أن ستر عيوب المسلم مطلوب وهو حي أحرى وهو ميت، وفي الحديث أن (من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة).
وخلاصة القول أن علينا أن نعتز بأعلامنا من أبنائنا، ونعترف لهم بمكانتهم أحياء يرزقزن بيننا، ومن باب أحرى بعد موتهم، وعلينا ألا نسيء إلى شخص قد أفضى إلى ما قدم، لأنه بباسطة لم يعد حيا حتى نلتقيه ونطلبه أن يسامحنا، كما أن علينا ألا نبالغ في إطراء أي شخص حيا كان، أو ميتا، وألا نزكيه على الله، وألا نجعل منه "رمزا" بالمعنى المقدس للكلمة، لأننا يمكن أن نمنحه الأوسمة، والنياشين، والمال، والجاه، والسلطة، والنفوذ.. ولكن لا يمكننا أن نمنحه منزلة عند الله، ولا أن نمحي عنه ذنبا واحدا، أو نمنحه قبول حسنة واحدة عند الله.
رحم الله كل موتى المسلمين، ووفق الأحياء لما يحبه ويرضاه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الأستاذ: سعدبوه ولد الشيخ محمد.