أنجبت ثلاثة رؤساء، كيفه..مدينة أنصفتها الجغرافيا، وانحاز لها التاريخ، فظلمها الحاضر(تقرير خاص)
إحدى أهم المدن الموريتانية وأكثرها كثافة سكانية، بل لعلها الأكبر بعد العاصمة انواكشوط، واسطة عِقد الجمهورية..، لم تظلمها الجغرافيا، ولم يضن عليها التاريخ، فهي تتوسط البلد، في منتصف الطريق بين العاصمة والحوض الحوض الشرقي، وعلى مسافة غير بعيدة من عواصم ولايات: الحوض الغربي، كيديماغا، تكانت، وحتى لبراكنه، تضم خمس مقاطعات تعتبر اثنتين منها من بين أكبر مقاطعات البلاد من حيث الكثافة السكانية(باركيول، كنكوصه)، تعتبر ممرا إجباريا للمتوجهين إلى نحو ثلث سكان البلد(الحوضين، لعصابه)، فضلا عن حركة النقل البري بين موريتانيا وجمهورية مالي، تضم تضاريسها الجبال، والسهول، والوديان، وواحات النخيل، ومناطق الزراعة الخصبة، وتُعد من أهم الولايات من حيث الثروة الحيوانية بمختلف أنواعها.
وتاريخيا، تصنف مدينة كيفه ضمن المدن التي سجلت حضورا بارزا، وتركت بصمة لافتة في تاريخ الأمة الموريتانية، منذ ما قبل الاستقلال، وما بعد الدولة الحديثة، كما أنها عاصمة الولاية التي أنجبت ثلاثة رؤساء من بين عشرة رؤساء حكموا موريتانيا، فمن الناحية التاريخية، والسياسية - كما الجغرافية- لم تكن مدينة كيفه ترضى بالهامش، ولا بدور المتفرج، بل ظلت حاضرة وفاعلة بقوة في ماضي وحاضر البلد، بشخصياتها التي ذاع صيتها وطنيا وخارج الوطن، في مجالات العلم، والسياسة، والإدارة، ومقاومة المستعمر، لكن كيف هو حال مدينة كيفه اليوم؟.
لعل عنوان هذا العنصر يلخص الإجابة، فواقع مدينة كيفه اليوم لا يسر صديقا ولا يغيظ عدوا، لم تشفع لها عناصر القوة سابقة الذكر في خلق واقع معيشي يمكن وصفه بالمقبول، فمعظم أطر المدينة هجروها إلا في مواسم السياسة، وفترات الراحة والاستجمام، مدينة ينقطع عنها الكهرباء معظم ساعات النهار، لتتعطل حياة آلاف المواطنين، وتتعرض للخطر..، المتجول في شوارع كيفه لا يعدم مشاهدة سيارة نقل أو شخصية متوقفة عند محل إصلاح العجلات "ميشلان" تنتظر عودة الكهرباء لنفخ العجلات، وقد يطول الانتظار ساعات وساعات، يحل معها الظلام وقد يضطر المواطنون للمبيت في المدينة وعليهم تحمل درجات الحرارة المرتفعة ولسعات الباعوض والظلام الدامس، فقط لأن عجلة السيارة لم تجهز والسبب انعدام الهواء لغياب الكهرباء.
في أقدم مركز صحي نسائي في المدينة (طب ابيمي) يلفتك مشهد سيدة تغالب آلام المخاض، بينما تحاول قابلة مساعدتها على "الخلاص" وفجأة ينقطع الكهرباء، فتتحول الغرفة العديمة التكييف والتهوية إلى جحيم لا يطاق، ويتحسس الجميع طريقهم للخروج من المركز الصحي وسط الظلام والحر الشديد، تاركين تلك المسكينة في غرفة تدلى منها مصباح رديء الشكل تم ربطه بسلك الكهرباء بطريقة بدائية تشبه ما يعرف شعبيا ب"النيش" وفي السقف بقايا مروحة متهالكة خرجت منذ زمن من الخدمة، وفي الأثناء تجمعت بضع سيدات داخل عريش أمام غرف التوليد يحملن أطفالا حديثي الولادة خرجوا لتوهم إلى هذا العالم وصراخهم يملأ المكان، وكأنهم يقولون بلغتهم وعلى طريقتهم(يا ويلنا من بعثها من مرقدنا)..
في الصباح، تصادفك سيدة عند محل الجزارة تتحسس محفظتها، وتعيد النظر كرتين، وتفكر مليا .. هل تجازف وتشتري اللحم فتستنزف ميزانية اليوم العاجزة أصلا، مع أنه لا خيار ثان أمامها، علما أن من يريد تأمين كيلغرام واحد من اللحم يوميا عليه أن ينفق شهريا مبلغا يناهز ثمانين ألف أوقية وهو مبلغ يساوي متوسط راتب موظف حكومي، أما عديمو الدخل -وهم الأكثر- فحالهم أكثر بؤسا.
قصة العطش مع ساكنة كيفه لا تنتهي فصولها، رغم محاولات السقاية التي تقوم بها الدولة منذ سنة 2004 إلى اليوم، فعربات الحمير والبراميل، ومواطنون يحملون قنينات فارغة بحثا عن قطرة ماء، مشهد لا تخطئه عين في مدينة تجاوزت المائة سنة ونيف من عمرها.
تلك مجرد أمثلة على ما يعيشه ساكنة مدينة كيفه، الذين يعانون بصمت، ورغم ضجيج الإعلام، وصخب السياسة فإن الواقع المرير للساكنة يبقى عصيا على التحريف والتزييف.
خاص بموقع الوسط الإخباري.