التكافل الاجتماعي، ودوره في مكافحة آثار الاسترقاق(محاضرة)
ألقى د/ الشيخ ولد الزين محاضرة بعنوان: التكافل الاجتماعي، ودوره في محاربة آثار الاسترقاق، وذلك بمناسبة اليوم العالم لمكافحة الرق، ضمن ندوة نظمتها وزارة الشؤون الإسلامية بمدينة كيهيدي مؤخرا، وفيما يلي نص المحاضرة:
بسم الله الرحمن الرحيم
صلي الله علي النبي الكريم
التكافل الاجتماعي ودوره في محا ربة آثار الاسترقاق
الدكتور الشيخ ولد الزين ولد الامام
عضو المجلس الإسلامي الاعلي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وبعد فان الحديث في هذا الموضوع يستلزم منهجيا تبويبه وتفصيله تبعا للمنهجية التالية :
- تعريف التكافل الاجتماعي وماهيته وحده وأدلة اهتمام الإسلام به ومن ثم تلمس مظاهر ذلك الاهتمام والوسائل التي اخذ بهاالإسلام من اجل تحقيقه وهل هناك فوارق بين المنظور الاسلامي للتكافل والمنظور الغربي إذا قبلنا جدلا بوجود هذا المصطلح ضمن المنظومة الفكرية المتداولة عند منظري تلك الحضارة ؟
- أما المحور الثاني فانه سيتناول دور التكافل في محو آثار ظاهرة الاسترقاق هذا اذا كنا قد اعتبرنا هذا المصطلح ضمن المتداول الذي لا يحتاج الي تعريف او تعريفه يزيده غموضا كما هي حال الواضحات فان حدها يزيدها اشكالا ؟
- التكافل في اللغة: مأخوذ من مادة كفل وهي تأتي على معاني متعددة من أكثر شيوعاً ما يأتي:
أ ـ تأتي بمعنى النصيب وبمعنى الضعف وبمعنى المثل ..
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ]([10]). قيل معناه نصيبين وقيل ضعفين وقيل مثلين.
ب ـ تأتي بمعنى الحظ قال تعالى: [وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا]([11]).
جـ ـ تأتي بمعنى العائل قال في لسان العرب([12]) (الكافل العائل، كفله يكفله وكفله إياه وفي التنزيل العزيز) [وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا]([13]).
د ـ تأتي بمعنى الضامن قال تعالى: [إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ]([14]). أي أيهم يعولها ويضمن معيشتها.
التكافل الاجتماعي في الاصطلاح:
يعني التكافل الاجتماعي في الاصطلاح تعاون أبناء المجتمع ـ فرادي وجماعات ـ على تحقيق الخير ودفع الجور.
يقول الشيخ الإمام محمد أبو زهرة([15]) معرفاً التكافل في الاصطلاح (يقصد بالتكافل الاجتماعي في معناه اللفظي أن يكون آحاد الشعب في كفالة جماعتهم وأن يكون كل قادر أو ذي سلطان كفيلاً في مجتمعه يمده بالخير وأن تكون كل القوى الإنسانية في المجتمع متلاقية في المحافظة على مصالح الآحاد ودفع الأضرار ثم المحافظة على دفع الأضرار عن البناء الاجتماعي وإقامته على أسس سليمة.
يقول الأستاذ عبد الله علوان :التكافل الاجتماعي هو أن يتضامن أبناء المجتمع ويتساندوا فيما بينهم سواء أكانوا أفراداً أو جماعات حكاماً أو محكومين على اتخاذ مواقف إيجابية كرعاية اليتيم أو سلبية كتحريم الاحتكار بدافع من شعور وجداني عميق ينبع من أصل العقيدة الإسلامية ليعيش الفرد في كفالة الجماعة وتعيش الجماعة بمؤازرة الفرد حيث يتعاون الجميع ويتضامنون لإيجاد المجتمع الأفضل ودفع الضرر عن أفراد
ويقول الدكتور عبد العزيز الخياط: (معنى التكافل الاجتماعي إذن أن يتساند المجتمع أفراده وجماعته بحيث لا تغطى مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة ولا تذوب مصلحة الفرد في مصلحة الجماعة وإنما يبقى للفرد كيانه وإبداعه ومميزاته وللجماعة هيئتها وسيطرتها فيعيش الأفراد في كفالة الجماعة كما تكون الجماعة متلاقية في مصالح الآحاد ودفع الضرر عنهم.
و يقصد بالتكافل الاجتماعي : أن يكون أفراد المجتمع مشاركين في المحافظة على المصالح العامة والخاصة ودفع المفاسد والأضرار المادية والمعنوية ، بحيث يشعر كل فرد فيه أنه إلى جانب الحقوق التي له أن عليه واجبات للآخرين وخاصة الذين ليس باستطاعتهم أن يحققوا حاجاتهم الخاصة وذلك بإيصال المنافع إليهم ودفع الأضرار عنهم .
وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم المجتمع الاسلامي بقوله : « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ».
الأدلة الشرعية على مبدأ التكافل الاجتماعي في الإسلام
تؤكد النصوص الصريحة من القرآن والسنة أن المجتمع الإسلامي يقوم على التكافل والتعاون بل ولا يكون المجتمع مجتمعاً إسلامياً بالمعنى الشامل إلا إذا كان متكافلاً تسوده المحبة والوئام وتنتشر في سمائه العدالة ويظهر بين أوساطه الإيثار والأدلة على ذلك كثيرة متوافرة نذكر طرفاً منها على سبيل المثال لا الحصر فنقول.
أولاً: الأدلة من القرآن:
يقول تعالى: [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً *(
ويقول تعالى : [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ]([22]).
ويقول تعالى: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]([23]).
تخاطب الآيات السابقة في وضوح لا لبس فيه أصحاب الأموال ممن أعطاهم الله شيئا سعة في الرزق وتذكرهم بأن لهم إخواناً من الأقارب واليتامى والمساكين والسائلين وفي الرقاب كل أولئك بحاجة ماسة إلى مد يد العون لهم ليعيشوا حياة ناعمة في ظلال الإسلام الوارفة وتشير الآيات إلى أن أصحاب الأموال إذا فعلوا ذلك فهم يحققون دعوة الإسلام التي جاء بها لتحقيق التكافل العام بين جميع أفراد الأمة وأبناء المجتمع ليعيش الجميع حياة آمنة هادئة ينعمون فيها بالأمن والرخاء والتعاون الصادق في ظل العقيدة الإسلامية السمحة.
ثانياً: الأدلة من السنة:
تفيض كتب السنة بالأدلة الصحيحة الصريحة على مشروعية التكافل والحث عليه ومن ذلك ما يأتي:
1ـ قوله صلى الله عليه وسلم : (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)([24]).
2ـ قوله صلى الله عليه وسلم : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)([25]).
3ـ قوله صلى الله عليه وسلم : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)([26]).
4ـ قوله صلى الله عليه وسلم : (من كان معه فضل ظهر فليعبد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل زاد فليعبد به على من لا زاد له
5ـ قوله صلى الله عليه وسلم : (خير الناس أنفعهم لناس)([28]).
هذه التوجيهات النبوية الصادقة التي تحث على التوادد والرحمة والتعاون وتؤكد على إعطاء فضل المركوب والزاد تدل دلالة واضحة على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيجاد مجتمع متكافل متوازن تسوده المحبة والإخاء ويهيمن عليه الإخلاص والوفاء ولقد تحقق للرسول صلوات الله وسلامه عليه ما أراد إذ تمثلت كل الصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة في الرعيل الأول الذين تخرجوا من مدرسة النبوة وتربوا على يد هادي البشرية صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: الدليل من الإجماع:
اتفاق الصحابة رضي الله عنهم فيما بينهم على رعاية الضعيف ومساعدة المحتاج ونصرة المظلوم وردع الظالم والأخذ بيد الفقير وأوضح دليل عملي ذلك ما حدث وقت الهجرة حيث كان المهاجرون يشاطرون الأنصار في ممتلكاتهم عن طواعية ورضى من الأنصار
ويدل للإجماع ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام الرمادة من غير نكير من الصحابة حيث قال: (والله الذي لا إله إلا هو ما أحد إلا وله في هذا المال حق أعطيه وأمنعه، وما أحد أحق به من أحد، وما أنا فيه إلا كأحدكم ولكنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرجل وتلاده في الإسلام والرجل وغناؤه في الإسلام والرجل وحاجته في الإسلام ولئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه)([29]).
غير أن التكافل الاجتماعي في الإسلام ليس مقصورا على النفع المادي وإن كان ذلك ركنًا أساسيًّا فيه بل يتجاوزه إلى جميع حاجات المجتمع أفرادا وجماعات, مادية كانت تلك الحاجة أو معنوية أو فكرية على أوسع مدى لهذه المفاهيم , فهي بذلك تتضمن جميع الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات داخل الأمة .
التكافل الروحي جزء من التكافل الاجتماعي
العبادات في الإسلام سمة بارزة من سمات المجتمع المسلم ونصوص الإسلام توجب تكافل المسلمين في أداء هذه العبادات وإظهار شعائرها. فكم اجتذبت أصوات المؤذنين وصفوف الخاشعين في الصلاة قلوباً تفتحت لهذه النداءات الرطبة العذبة والوجوه المشرقة المستغرقة في مناجاة الله... ولذلك كان الآذان للصلاة المكتوبة وإقامة صلاة العيد وتعاون المجتمع في تجهيز الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه كل ذلك من فروض الكفاية التي لو تركها المجتمع لأثم كله.
وهذه الصورة من تكافل المجتمع الإسلامي وتعاونه في أداء العبادات والفروض الكفائية هو ما يعرف بالتكافل العبادي(
يقول الدكتور: مصطفى السباعي (هناك في الإسلام شعائر وطاعات يجب أن يقوم بها المجتمع ويحافظ عليها بمجموعة تسمى بفروض الكفاية في العبادات كصلاة الجنازة فإن الميت إذا مات وجب على المجتمع تكفينه والصلاة عليه ودفنه فإن لم يقم بذلك أحد أثم المجتمع كله). انتهى كلامه.
- التكافل الأخلاقيجزء من التكافل الاجتماعي
يقصد بالتكافل الأخلاقي عند الاطلاق حراسة المبادئ الأخلاقية النابعة من عقيدة المؤمنين وتحمل كل فرد في الأمة المسؤولية أي انحراف.
والإسلام يعتبر المجتمع المسلم مسؤولاً عن صيانة الأخلاق العامة لأن بها حفظه من الفوضى والفساد والانحلال وحين أوجب الإسلام الإنكار على مرتكبي المنكرات الخلقية والجرائم المختلفة لم يعتبر هذا تدخلاً من المنكر في الحريات الشخصية ذلك أن آثار الفساد تأتي على بنيان الأمة من القواعد والنصوص من القرآن والسنة كثيرة متضافرة تحث على التكافل الأخلاقي وتدعو إليه من ذلك قوله تعالى: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ]([33]).
آمنوا بمبدأ واحد وثبتوا عليه فتبع ذلك تطهير المجتمع من الفساد والانحراف والتعاون لتحقيق الهدف المنشود الذي يسعى إليه الجميع في طريقهم إلى الله وفي سبيل تكافل المجتمع في هذه المعاني يخوف الله كل من اعتزل الناس واهتم بأمر نفسه ولم يخص غيره على البر والرحمة يقول تعالى: [خُذُوهُ فَغُلُّوهُ *ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ *ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ *إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ]([34]).
والأمة التي يشيع فيها الفساد ولا تأخذ على يد المجرمين والعابثين تتزلزل أركانها ويسقط بنيانها وتصبح أثراً بعد عين يقول تعالى: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً بديعاً للتكافل الأخلاقي في الأمة ذلك التكافل الذي يأخذ على أيدي العابثين والمخربين يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقموا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)([36]).
- التكافل العلمي جزء من التكافل الاجتماعي
يحتل العلم في الإسلام مكانة رفيعة فقد كان أول خطاب لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم حثا على العلم وطلبه.
يقول تعالى: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]([47]).
والقرآن الكريم أفصح عن مكانة العلم والعلماء بما لا يدع مجالاً للشك يقول تعالى منوهاً عن منزلة العلماء ومكانتهم في الوجود [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]([48]).
وإذا كان الإسلام قد رفع منزلة العلم والعلماء فإنه في نفس الوقت يطالبهم بتأدية ضريبة العلم وهي تعليم الجاهل وبذل العلم لطالبه على أوسع نطاق ويتوعد صفوة الأمة وهم العلماء بكتمان العلم وعدم بذله لطالبيه .... يقول تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]([49])...
ولقد أصبح من المعلوم بداهة أن مكانة الأمة وعلو منزلتها تتوقف على شيوع العلم فيها وقد بلغت أمة الإسلام في عهودها الزاهرة ذروة المجد وتربعت على عرش السيادة وقادت العالم قروناً طويلة وأنارت ببصائر علمائها ومفكريها ظلام الجهل الدامس في أوروبا وقد شهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء ويحق لأمة الإسلام أن تفاخر العالم قاطبة وذلك لتكافل أفرادها جميعاًُ في القيام بواجب العلم وإزالة آثار الجهل وهذا التكافل العلمي في الإسلام ينبعث من عقيدة راسخة ترفض الجهل وتأباه مهما كانت صوره وأشكاله.
- التكافل المعيشي جزء من التكافل الاجتماعي
وهو ما يرتبط بحياة الناس ومعيشتهم من طعام وكساء ومسكن وما يتصل بها من حاجات اجتماعية يحتاجها الناس طول حياتهم.
وهذا النوع من التكافل هو المعروف في بلاد الغرب وإذا أطلق التكافل الاجتماعي انصرف إليه لأن الغربيين لا يؤمنون بأنواع التكافل الاخري التي ذكرناها لأن حضارتهم قائمة على الحرية الأخلاقية وهي ما يمكن أن نسميه بأسلوب أوضح الضياع والاستهتار.
يقول الدكتور / عبد الفتاح عاشور: (وهذا اللون من التكافل هو ما أطلق عليه ـ خطأ ـ التكافل الاجتماعي والواقع أنه لون من ألوانه به تكمل صوره التكافل الاجتماعي ويكون بذلك شاملاً لكل حاجات المجتمع الأدبية والسياسية والدفاعية والجنائية والاقتصادية والأخلاقية والعبادية والحضارية والمعيشية وينفرد مجتمع الإسلام بهذا التكافل العام الشامل في تاريخ الإنسانية دون أن يسبقه أو يلحق به في تشريعه من أجل البناء الاجتماعي تشريع على الإطلاق).
وكما هو شأن الإسلام في مواجهة مشاكل الحياة والاجتماع فإننا نجده يسلك نفس السلوك في مشكلة الفقر ففي الوقت الذي يفتح فيه فرص العمل أمام الجميع ويزيل العقبات والعراقيل أمام الفقراء ليعملوا فإنه يفرض على المجتمع المسؤولية الكاملة عن فقرائه الذين لا يجدون عملا أو لا تتسع مواردهم للوفاء بحاجتهم وذلك من خلال فريضة الزكاة التي تتمثل في قيمة 2,5 % من ثروة المجتمع تجنيها الدولة كل سنة لتردها على الفقراء والمساكين وغيرهم من مصارف الزكاة الذين حددهم الله تعالى في القرآن الكريم بقوله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
كما يعلن مسؤولية الدولة عن توفير العمل لمن لا يجد عملا وإيجاد ميادين العمل وفتح أبوابه أمام العاطلين, بل إنه يجعل للإمام في الحالات التي يهدد فيها التوازن الاجتماعي وتميل فيه الكفة نحو احتكار المال في أيد محدودة يجعل له الحق في أن يعيد الأمور إلى نصابها ويتخذ من الإجراءات ما يراه كفيلا بإعادة التوازن إلى المجتمع , ثم يفتح بعد ذلك الطريق أمام التطوع والإحسان ويحض عليه ابتغاء الدار الآخرة والثواب من الله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ } , { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } ، { فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
ومن الوسائل الإلزامية التي شرعها الإسلام لتحقيق التكافل ما يلي :
1- فريضة الزكاة :
وهي من أهم هذه الوسائل, وهي فريضة إلزامية فرضها الله على المسلم دينا وجعل للدولة الحق في أخذها منه قهرا إذا هو امتنع عن أدائها . وتأتي أهمية الزكاة من حيث شمولها لمعظم أفراد المجتمع ومن حيث أهمية المقدار الذي تمثله من الثروة العامة حيث تمثل 2,5% من مجموع الأموال .
وهي نسبة كفيلة لو نظمت -بأن تحل كثيرا من المشاكل الاجتماعية الناتجة عن الفقر وأن تسهم في الحد منه, ومن ثم كان لها تأثيرها الحيوي في إشاعة التكافل . هذا فضلا عن آثارها المعنوية حيث تنفي من المجتمع الأحقاد والبغضاء الناتجة عن انقسام الناس إلى مالكين لا يعبأون بغيرهم ومحرومين لا يعبأ بهم .
2- نظام الكفارات
وهي ما فرضه الإسلام على المسلم لارتكابه بعض المحظورات أو تركه بعض الواجبات, ككفارة اليمين إذا حلف المسلم بالله فحنث ، وكفارة الفطر عمدا بدون عذر مقبول شرعا في نهار رمضان وغيرها . وهذه الكفارات في بعض مصارفها إطعام لعدد من المساكين, ومن هنا كانت وسيلة لتحقيق التكافل قال الله تعالى : { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ }
3- صدقة الفطر
وهي صدقة يجب إخراجها يوم عيد الفطر بعد شهر رمضان ومقدارها ثلاثة كيلو غرام تقريبا من غالب قوت البلد , وهي واجبة على كل مسلم : الرجل والمرأة , والصغير والكبير . وهدفها كما قال صلي الله عليه وسلم « أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم »
حيث يلتزم من علم بأن جاره جائع ولا يجد ما يأكل أن ينقذه إذا كان ذلك في استطاعته يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به » ويقول : « برئت ذمة الله من أهل عرصة بات فيهم جائع » والإسلام يعطي الحق لمن وصل إلى هذه الدرجة أن يأخذ ما يدفع عنه الجوع من الآخرين ولو بالقوة إن احتاج الأمر لذلك .
ب - الوسائل الفردية التطوعية :
وإذا كان الإسلام قد أرسى وسائل إلزامية للتكافل فإنه أيضا فتح الباب أمام التطوع وذلك من خلال تشريعه لوسائل التكافل الطوعية والتي منها :
1- الوقف
فقد شرع الإسلام الوقف وجعله من أفضل الأعمال وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم « إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له »
ومعنى الوقف أن يتبرع المسلم بعين تبقى لمدة من الزمن لجهة معينة شريطة عدم التصرف في العين مع الاستفادة من منافعها وغلاتها وذلك كعمارة سكنية أو استثمار أو أرض زراعية أو غير ذلك . وقد عرف الوقف في التاريخ الإسلامي بكثرته وتنوع مصادره وتعدد أهدافه وجهاته حيث شكل مرفقا حيويا للمجتمع يقوم حتى اليوم بالوظائف العامة والأمن والرعاية الاجتماعية للفئات المحتاجة .
2- الوصية :
وهي أن يوصي الشخص عند موته بنسبة من ماله لشخص معين أو جهة معينة أو جماعة من الناس بأعيانهم أو بأوصافهم أو أي جهة من جهات الخير .
وقد رغب الإسلام في الوصية ، قال الله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند موتكم »
4 - الهدية والهبة :
وقد حث الإسلام على تبادل الهدايا ذاكرا دورها في تقوية النسيج الاجتماعي وإشاعة روح الألفة والمودة بين أفراد المجتمع, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تهادوا تحابوا ».
ثانيا دور االنكافل الاجتماعي في محاربة مخلفات الاسترقاق
تعتبر ظاهرة الاسترقاق ظاهرة انسانية منذ القدم غير مرتبطة بلون أو جنس من الناس
ولقد عانت منها البشرية عموما و
وقد عرفت موريتانيا كغيرها من بلدان العالم هذه الظاهرة غير أنه ومنذ عقود من الزمن أصبحت هذه الظاهرة جريمة يعاقب عليها القانون وكان للفقهاء دور بارز في دعم السلطات العمومية علي هذا التوجه
فقد جاءت فتوي 1981 في سياق اجتهاد فقهي تمليه مصلحة الدين والدنيا وتأسست تلك الفتوي علي فتاوي سابقة لها شكك فيها علماء عديدون في صحة الملك وجوازه
ومن تلك الفتوي كتاب معراج الصعود في حكم مجلوب السودان لاحمد بابا التنبكتي المتوفي 1627 م وأحوبة محمد بن عبد الكريم المغيلي المتوفي 1503 م وجلال الدين السيوطي المتوفي 1505 م
وهكذا فان الرق في الحقيقة لم يعد موجودا في بلادنا لان المعدوم شرعا كالمعدوم حسا الا تري ان المستحاضة مثلا يكون عليها الدم لكن الشارع يلغيه ويجيز لها الصلاة والصيام كما ان الدابة يكون في بطنها ولد فيؤكل بذبحها ولم تممسه سكين وذلك كله في باب التقديرات الشرعية تبعا لهذه القاعدة
غير ان آثار هذر هذه الظاهرة من فقر وجهل وامية لا يمكن التقليل منها وان كان الكثير من المواطنين غيرهم يقاسمهم تلك المعاناة ولهذا نريد في سياق محاربة آثار الاسترقاق أن نفترح ما يلي :
١- نشر ثقافة المساواة بين أفراد المجتمع المسلم استدلالا بقوله تعالي:) يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وقوله صلي الله عليه وسلم:
(لينتهين أقوام عن الفخر بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان) و قوله صلي الله عليه وسلم :( من تعاظم في نفسه و اختال في مشيته لقي الله و هو عليه غضبان).
٣- على رجال الأعمال والاعنياء عموما أن يخصصوا زكواتهم سنين عديدة لآدوابه والتجمعات الفقيرة حتي يرتفع مستواهم المعيشي والاقتصادي
٤- على الدولة كما علي الجمعيات الخيرية أن تقوم ببناء مساجد ومحاظر ومعاهد في آدوابة وغيرها من التجمعات الفقيرة و دفع رواتب أئمتها و مؤذنيها
٥- على الدعاة إلى الله من العلماء و طلبة العلم أن يكثفوا جهودهم الدعوية و المحاضرات والندوات والدروس المسجدية في تلك المناطق المستهدفة .
6- على وسائل الإعلام أن تسد الباب دون دعاة الجاهلية و كل ما من شأنه إثارة النعرات والفتن داخل المجتمع المسلم الواحد .
7- علي الدولة تخصيص موارد خاصة لهذه الفئات الهشة من المجتمع يمتنع علي غيرهم المشاركة فيها كما فعل عمر رضي الله عنهم عام الرمادة عندما خصص حمي لفقراء المسلمين لا يشاركهم فيه غيرهم ولهذا فإننا نري أن شراء المواد الغذائية من مشروع أمل حكر علي الفقراء لا يجوز لغيرهم
جاء في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعامله ( يا هني ضم جناحك عن الناس واتق دعوة المظلوم فان دعوة المظلوم مجابة وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة وإياك ونعم ابن عفان وابن عوف فانهما ان تهلك ماشيتهما يرجعان الي نخل وزرع وان رب الصريمة والغنيمة ياتيني بعياله فيقول يا أمير المؤمنين / أفتاركهم أنا ؟