حريق المرفأ.. عندما تحقق الحكومة سبقا على الصحفيين/ سعدبوه ولد الشيخ محمد
تعرض أحد أحياء الصفيح في ضواحي انواكشوط لواحد من أكثر الحرائق بشاعة، وخلف عشرات الأسر بلا مأوى، علاوة على جروح طفيفة، وخسائر مادية هائلة، وقد تواجدت بعين المكان سيارات الإسعاف، ووزراء في الحكومة، ولاحقا وصل رئيس الجمهورية لعين المكان، هو إذا حدث يحمل كل العناصر التي تجعل منه خبرا مهما، ينبغي أن يتصدر صفحات المواقع، وعناوين نشرات الأخبار.
موفد (الوسط) كان من أوائل الصحفيين الذين وصلوا المكان، إن لم يكن أولهم، حيث عاينا عمليات الإطفاء، وصيحات الأهالي المذعورين، وأشلاء الأغنام المتفحمة، وتابعنا تصريحات الوزراء من مكان الحدث.
لقد لفت انتباهي عدم وجود أي صحفيين من مواقع إلكترونية مشهورة، صدعت رؤوس الجميع بنشر قصص خيالية عن أحداث مضخمة، تقول إن دافع نشرها هو الحرص على إبراز معاناة المواطنين البسطاء، فأي مسوغ يجعل تلك المواقع تتجاهل معاناة هذا الحي المنكوب؟؟!! وما دامت تلك المواقع تجند الجواسيس، والعملاء للحصول على صورة حفرة بسيطة في مدرج مطار قيد الإنشاء، كيف تبرر غيابها عن هذا الحريق، الذي تبدو صور آثاره الكارثية على المواطنين ماثلة لا تحتاج لعمل بوليسي للحصول عليها ؟!!
غادرت مكان الحريق قبل 10 دقائق من منتصف الليل، وأنا ألتمس أحسن الأعذار لتلك المواقع الرائدة، وأقول في نفسي ربما تنتظر الصباح حتى تتضح الصورة، وسترسل موفدا ليصور الحدث، ومعاناة المواطنين، والمفاجأة كانت أن تلك المواقع لم تكلف نفسها عناء نشر تلك الصور، بل لم تنشر أصلا أي خبر عن الحريق الهائل، وأتت عليه في معرض ذكرها لزيارة رئيس الجمهورية لمكان الحريق، مع صورة إرشيفية لرئيس الجمهورية.
تقول هذه المواقع إن مصلحة المواطن، والحرص على سلامته، وإبراز معاناته، هي أهم بنود ما تسميه "العقد الأخلاقي" الذي يربطها بالقراء، فهل سكان هذا الحي الفقير ليسو مواطنين؟؟ أم أن معاناتهم لا تستحق الذكر؟؟
بحثت كثيرا عن إجابة لهذه الأسئلة المحيرة، وتبادرت إلى ذهني عدة فرضيات كاحتمالات للإجابة، الفرضية الأولى: أن سبب تجاهل هذه المواقع الشهيرة لمعاناة هذا الحي جراء الحريق يرجع إلى سرعة تعامل السلطات مع هذه الكارثة، بدءا بوالي انواكشوط ، مرورا بالدفاع المدني، وانتهاء بوزير الداخلية، ورئيس الجمهورية، وهذه الاستجابة الرسمية السريعة للكارثة ربما قطعت الطريق أمام إمكانية استغلالها سياسيا، وبذلك فقد الحدث قيمته، وأهميته عند تلك المواقع، التي تجعل من حفرة في مدرج مطار تحت الإنشاء كارثة وطنية تهدد عشرات آلاف المواطنين، ولا تكتب سطرا واحدا، ولا تنشر صورة واحدة عن معاناة حقيقية حصلت بالفعل، لعشرات الأسر بفعل كارثة طبيعية!!
الفرضية الثانية التي قد تفسر غياب هذه المواقع عن هذا الحدث عثرت عليها عندما حضرت جانبا من سهرة الصحفيين الشباب للتضامن مع عمال تازيازت المفصولين، ولاحظت غياب أي ممثل لهذه المواقع الشهيرة، التي تغطي كل صغيرة، وكبيرة من نشاطات حزب سياسي معين، لا أريد هنا أن أتهم هذه المواقع الكبيرة ب"التواطؤ" مع تازيازت، ولكن فقط أذكر ما حصل، والحكم للقارئ.
في الحقيقة لقد انكشف الوجه المخفي لهذه المواقع التي تطالعنا يوميا بعناوين عريضة من قبيل:"كارثة تهدد الوطن" و "فضيحة تهز وزارة...." و" حرب أهلية في الأفق" وغير ذلك من العناوين التي أصبحنا مجبرين على مطالعتها يوميا على هذه المواقع، التي تدعي الريادة، بل وتكاد تحتكر لنفسها الحياد، والموضوعية، والمهنية.
وبالعودة للحريق ... لقد أحرجني وزير الداخلية ليلة البارحة، ففي حدود الساعة الحادية عشر والنصف ليلا وصل وزير الداخلية إلى مكان الحريق في زيارة هي الثانية له منذ وقوع الحريق، وبصعوبة بالغة شق الوزير طريقة فوق أنقاض الأكواخ، المحترقة، وأشلاء الحيوانات المتفحمة، ووسط جيوب الجمر، وألسنة النيران التي لا تزال مشتعلة، وسط هذا الجو سألت وزير الداخلية: ماذا أنتم فاعلون حيال هذه الكارثة؟!! فرد علي الوزير بكل هدوء :"انتوم الصحافة ألا امكيفنكم جيتو..!! احن مذالن جين هون فور وقوع الحريق، ونقوم الآن بإحصاء المتضررين لتعويضهم" .
تفاجأت حقا، فعندما يصل الوزير قبل الصحفي المستقل لمكان الحدث، ويعاين الخسائر، وتغيب الصحافة المستقلة، يكون القارئ في حيرة من أمره، ولا يعرف على أي أساس تصنف تلك المواقع الألكترونية أولوياتها ؟؟؟
سعدبوه ولد الشيخ محمد