محبة الرسول ص عنوان محاضرة بمهرجان عيون المكفه (صور)
ألقى الدكتور الشيخ ولد الزين ولد لمام، عضو المجلس الإسلامي الأعلى، وأحد أطر لعيون، ألقى محاضرة ضمن فعاليات النسخة الثانية من مهرجان عيون المكفه، الذي تحتضنه لعيون هذه الأيام، وكانت المحاضرة عن محبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا نص المحاضرة:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله علي النبي الكريم
محبة النبي صلي الله عليه وسلم ونماذج من المحبة الصادقة
الدكتور الشيخ ولد الزين ولد الامام
الحب كلمة دائرة على ألسنة الناس، رمزا لتعلق القلوب وميلها إلى ما ترضاه وتستحسنه. ويطلق في اللغة على صفاء المودة.
جاء في لسان العرب: الحب: نقيض البغض. والحب: الوداد والمحبة. . .
وقد قسم الراغب الاصفهانى المحبة إلي أنواع :
- محبة للذة، ومنه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] (1) .
- محبة للنفع، كمحبة شيء ينتفع به، ومنه: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13] (2) .
- ومحبة للفضل، كمحبة أهل العلم بعضهم لبعض من أجل العلم) (3) .
وإذا كان الراغب هنا قد فسر المحبة بإرادة ما يظنه الإنسان خيرا، فقد كان " القاضي عياض (4) أكثر وضوحا حين عرف المحبة: بأنها ميل الإنسان إلى ما يوافقه.
يقول القاضي عياض:
(وحقيقة المحبة: الميل إلى ما يوافق الإنسان، وتكون موافقته له:
1 - إما لاستلذاذه بإدراكه كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له.
2 - أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة كحب الصالحين والعلماء، وأهل المعروف المأثور عنهم السير الجميلة والأفعال الحسنة، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء.
3 - أو يكون حبه إياه لمرافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها) (1) .
وعلى ذلك فهذا الميل إما أن يكون حسيا أو عقليا أو قلبيا. وعلى هذه الجوانب الثلاثة- منفردة أو مجتمعة- يقوم الحب في القلب، فما وافقها مال إليه القلب وأحبه، وما خالفها نفر عنه وكرهه.
وأصل الحب قوة في القلب تحرك إرادة الإنسان لتحصيل المحبوبات أصلا، ودفع المكروهات تبعا، فتميل النفس إلى الشيء إن كان محبوبا وتنفر عنه إن كان مكروها (2) .
ويتوقف تعلق النفس بالشيء حبا، أو النفور عنه كرها على الإدراك الفطري أو الكسبي.
ذلك لأن فالحب ثمرة الإدراك والمعرفة، فكلما كانت المعرفة أتم كان الحب أقوى والعكس صحيح.
لأجل هذا كان الناس متفاوتين في حبهم للأشياء والأشخاص تفاوتا بينا تبعا لتفاوت إدراكهم ومعرفتهم.
وقد جاءت فى القرآن الكريم أمثلة كثيرة على المحبة الفطرية منها :
قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] (1) .
وقال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20] (2) .
وقال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] (3) .
وقال: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [القيامة: 20] (4) .
وفي الحديث الذي أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل» (5)
وأخرج عن أنس بن مالك أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان حب المال وطول العمر» (6) .
وهكذا فإن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم معناها:
أن يميل قلب المسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ميلا يتجلى فيه إيثاره صلى الله عليه وسلم على كل محبوب من نفس ووالد وولد والناس أجمعين .
وذلك لما- خصه الله من كريم الخصال وعظيم الشمائل، وما أجراه على يديه من صنوف الخير والبركات لأمته، وما امتن الله على العباد ببعثته ورسالته إلى غير ذلك من الأسباب الموجبة لمحبته عقلا وشرعا.
يقول النووي ملخصا كلام القاضي عياض: (وبالجملة فأصل المحبة: الميل إلى ما يوافق المحب، ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان ويستحسنه، كحسن الصورة والصوت والطعام ونحوها، وقد يستلذه بعقله للمعاني الباطنة كحب الصالحين والعلماء وأهل الفضل مطلقا، وقد يكون لإحسانه إليه ودفع المضار والمكاره عنه.
وهذه المعاني كلها موجودة في النبي صلى الله عليه وسلم لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال خلال الجلال وأنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم ودوام النعم والأبعاد من الجحيم) (1) .
وحب المسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمل قلبي من أجل أعمال القلوب، وأمر وجداني يجده المسلم في قلبه، وعاطفة طيبة تجيش بها نفسه، وإن تفاوتت درجة الشعور بهذا الحب تبعا لقوة الإيمان أو ضعفه.
قال ابن تيمية:
(وليس للخلق محبة أعظم ولا أتم من محبة المؤمنين لربهم، وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى وكل ما يحب سواه فمحبته تبع لحبه، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما يحب لأجل الله ويطاع لأجل الله ويتبع لأجل الله.
كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] (1)) (2) .
وعلى ذلك فلا تنفك إحدى المحبتين عن الأخرى فمن أحب الله أحب رسوله صلى الله عليه وسلم وكذلك سائر رسله ومحبة الرسول تبع لمحبة من أرسله. ولأجل هذا جاء حب الرسول صلى الله عليه وسلم مقترنا بحب الله عز وجل في أكثر النصوص الشرعية.
قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] (3) .
وفي الحديث «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (4) .
وهذا الارتباط بين المحبتين ارتباط شرعي لا ينفك. فمن زعم أنه يحب الله ولم يحب رسوله صلى الله عليه وسلم أو العكس فكلامه باطل واعتقاده فاسد.
إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم أصل عظيم من أصول الإيمان يتوقف على وجوده وجود الإيمان، فلا يدخل المسلم في عداد المؤمنين الناجين حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه بل ومن الناس أجمعين.
وأدلة هذا كثيرة القرآن والسنة.
فمن القرآن:
(أ) قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] (1) .
يقول القاضي عياض مستدلا بهذه الآية:
(فكفى بهذا حضا وتنبها ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها وعظم خطرها واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وتوعدهم بقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] ثم فسقهم بتمام الآية وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله) (1) .
وقد ذكر الله في هذه الآية ثمانية أصناف وهم الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال المكتسبة والتجارات والمساكن والديار. وهذه الأصناف تمثل بمجموعها كافة الروابط الاجتماعية والاقتصادية وعليها مدار مصالح الحلق ومعايشهم. وهي التي تجذب الإنسان إلى الأرض وتثقله عن الجهاد في، سبيل الله ما لم يكن حب الله ورسوله مستعليا في قلب المسلم على كل هذه الروابط والمصالح.
وقد جاءت الأحاديث لتؤكد مدلول هاتين الآيتين- أبلغ تأكيد وأوضحه ألا وهو وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فمنها ما أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده» (1) وأخرج البخاري ومسلم بسنديهما عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» (2) .
وخص الوالد والولد بالذكر لكونهما أعز خلق الله على الإنسان، بل ربما كانا أحب إليه من نفسه، وفي هذا تأكيد على أنه يجب أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إلى نفس المؤمن من كل حبيب وعزيز عليه من سائر البشر جميعا (3) .
ومن الأحاديث الدالة على وجوب المحبة ما أخرجه البخاري بسنده عن عبد الله بن هشام قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. ضال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر» (2) .
وإذا كان الإنسان بفطرته يحب من نصحه أو أحسن إليه مرة أو مرتين فما بالنا بالناصح الأمين البر الشفيق على أمته والذي كانت حياته كلها نصحا لأمته وتعليما لها وتزكية لأرواحها وأبدانها. وهو الذي هدى البشرية- بإذن ربها- إلى الصراط المستقيم بعدما كانت تعيش في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، ولولا رحمة الله للناس ببعثته ورسالته لعاش الناس في بحار الظلمات تتقاذفهم الأمواج فلا يجدون إلى ساحل الهداية سبيلا.
يقول الله عز وجل: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] (2) .
وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ - فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151 - 152] (3) .
لأجل هذا كانت المنة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم عظيمة، والنعمة بذلك جسيمة. ولا يعرف قدر هذه النعمة إلا من أدرك الفرق بين الهدى والضلال وبين الجاهلية والإسلام وبين رضى الله وسخطه.
فمن عرف هذا الفرق وأدركه إدراكا يقينيا علم عظم هذه النعمة التي لا تعادلها نعمة على ظهر الأرض، وأحب الرسول صلى الله عليه وسلم بكل قلبه وآثر حب الله ورسوله على ما سواهما.
وإذا كان الإنسان يحب أبويه لكونهما وسيلة وجوده، ولأنهما منحاه الرعاية والعناية حتى استطاع شق طريقه في الحياة.
فرسول الله أولى بذلك الحب لأنه كان سبب انتفاع الإنسان بحياته وبدنه وروحه. فلولا الإيمان به واتباع دينه لكان الإنسان في درجة الحيوانات أو أحط كما كانت حال الجاهلية قبل أن تشرق عليهم شمس النبوة وهكذا الشأن في كل جاهلية قديما وحديثا.
أن أقوى مظهر وأوضح شاهد على صدق المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الاتباع وبدونه تصبح المحبة دعوى مجردة عن الدليل وقولا لا يصدقه عمل.
وهذا الاتباع محدد أيضا بشواهد وعلامات تؤكده
والسؤال الآن: كيف تكون محبة الرسول؟
وعلامات محبة الرسول على النحو التالي:
أولًا: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهى أولى علامات المحبة الصادقة قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ...} [النساء:80]، وقال سبحانه: {... وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]، والطاعة تكون فوق هوى النفس والفؤاد.
ثانيًا: الغيرة عليه وعلى دينه وفدائه والغضب لانتهاك حرمته وحرمة الدين العظيم؛ فلقد تفانى الصحابة الكرام في غيرتهم على النبي، من أمثال (خبيب بن عدي، ومعاذ ومعوذ،...)، والمسلم مطالب بأن يثبت محبته بالعمل لا بالكلام فقط؛ كأن ينشئ موقعًا على الإنترنت للدفاع عنه ورد الشبهات المثارة حوله وحول سنته، وأن ينشر قضايا أمته ويثور على ما يفعله الأمريكان في العراق، والكيان الصهيوني في فلسطين وغير ذلك.
ثالثًا: تعظيمه وتوقيره وعدم الاستهانة بسنّته؛ فإن كثيرًا من الناس قد لا يطبق السنة فحسب بل تجده يستهزئ من الملتزمين بهدي الرسول، فكيف يزعم حب النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا بد من توقير النبي وسنته وندائه بنبوته لا باسمه مجردًا.
رابعًا: كثرة الصلاة عليه، فما أجمل أن يكون اللسان مُصَلِّيًا ومُسَلِّمًا على الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أحب إنسانا أكثر من ذكره، وليس هناك أحبّ إلى قلوبنا من البشر بشرًا سوى محمد بن عبدالله، والصلاة عليه نور وبركة ودعاء وتعظيم وتوقير، وقد رويت عدة روايات تؤكد فضل الصلاة عليه، التي تُذهب الهموم وتصرف الأحزان.
خامسًا: تذكر النبي والشوق إليه وتمني رؤيته ولقائه؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أشد أمّتي حبا لي ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله» [صحيح مسلم].
وإذا نظرت إلى حياة الصحابة والتابعين ومدى الشوق الذي ملأ قلوبهم نحوه عليه الصلاة والسلام لازددت حبًا وعجبًا، فبلال الصابر رحمه الله يقول وهو على فراش موته: "غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه"، وهذا عبد الله ذو البجادين رضي الله عنه يشتاق ويشتاق للنبي فينتج حبه وشوقه أن رضي عنه الرسول ودفنه بيديه بعد تبوك.
سادسًا: حب من أحبهم النبي صلى الله عليه وسلم، من البشر والكائنات والطعام والشراب والكلام والأماكن والأزمنة، فهذا حب حقيقي، فنحب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم جميعًا ونذكر الله في أهل بيته كما قال: «... أذكّركم الله في أهل بيتي...» [صحيح مسلم].
سابعًا: التخلق بأخلاقه والسير على طريقته؛ فلقد كان لكم في سيرته الأسوة الحسنة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنًا يمشي بين الناس، فلنتخلق بأخلاق النبي وسيرته وهديه في الطعام والشراب والنوم والمعاملات.
وهكذا تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم حقا لمن أرادها.
كيف ترقى رقيك الأنبياء *** يا سماء ما طاولتها سماء
إنما مثلوا صفاتك للناس *** كما مثّلَ النجومَ الماءُ
حن جذع إليك و هو جماد *** فعجيب أن يجمد الأحياء
ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم نماذج صادقة لهذه المحبة .
أبو بكر الصديق أول المحبين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر فبكى
قالت عائشة رضي الله عنها : ( فرأيت أبا بكر يبكي و ما كنت أحسب أن أحداً يبكي من الفرح)
وعن عائشة رضي اله عنها قالت : إن أبا بكر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال : ( أي يوم هذا ؟ ) قالوا يوم الاثنين ) قال : ( فإن مت من ليلتي فلا تنتظروا بي الغد فإن أحب الأيام و الليالي إليّ أقربها من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) رواه أحمد و صححه أحمد شاكر .
وروى الطبراني عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي و إنك لأحب إلي من ولدي و إني لأكون في البيت فإذكرك فما اصبر حتى أتي فأنظر إليك و إذا ذكرت موتي و موتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين و أني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه و سلم شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلم بهذه الآية : ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء:69)
و عن ربية بن كعب رضي الله عنه : ( كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتيته بوضوئه , و حاجته ، فقال لي : ( سل ) فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة . قال :(أو غير ذلك
قلت : هو ذاك قال : ( فأعني على نفسك بكثرة السجود ) رواه مسلم .
وروى ابن جرير الطبري في التاريخ عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار ، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُحد ، فلما نُعوا لها قالت : فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : خيرا يا أم فلان . هو بحمد الله كما تحبين قالت : أرنيه حتى أنظر إليه ، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل . تريد صغيرة
وفى قصة خبيب بن الأرت قال له أبو سفيان : أيسرك أن محمدا عندنا نضرب عنقه وإنك في أهلك ؟ فقال لا والله ما يسرني إني في أهلي وأن محمدا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه
ولست أبالي حين أقتل مسلما *** على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزع
وعندما احتضر بلال رضي الله عنه قالت امرأته: واحزناه فقال: (بل وا طرباه غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه) فمزج مرارة الموت بحلاوة الشوق إليه صلى الله عليه و سلم .
وعن أنس رضي الله عنه: دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عندها (أي من القيلولة) فعرق وجاءت أمي بقارورة، فجعلت تسلت العرق فيها فاستيقظ فقال: يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب ". رواه مسلم .
وهذا عبد الله بن الزبير يعطيه النبي صلي الله عليه وسلم دم حجامته ليريقه فشربه فقال له: (لا تمسك النار إلا تحلة القسم، وويل لك من الناس، وويل للناس منك).
وفي رواية: أنه قال له: ( يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهريقه حيث لا يراك أحد ) فلما بعُد عمد إلى ذلك الدم فشربه، فلما رجع قال: (ما صنعت بالدم؟ ) قال: إني شربته لأزداد به علماً وإيماناً، وليكون شيء من جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم في جسدي، وجسدي أولى به من الأرض فقال: (ابشر لا تمسك النار أبداً، وويل لك من الناس وويل للناس منك) رواه الحاكم و الطبراني وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح غير هنيد بن القاسم و هو ثقة.
وكان أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه يحمي رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة أحد و يرمي بين يديه ، و يقول ( بأبي أنت و أمي يا رسول الله لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك ) رواه البخاري
و عن قيس بن أبي حازم قال : ( رأيت يد طلحة شلاء ، وقى بها النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد ) رواه البخاري.
وروى ابن اسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قدح يعدل به القوم فمر بسواد بن غزية حليف بني علي ابن النجار وهو مستنتل من الصف فطعن في بطنه بالقدح وقال استو يا سواد فقال يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فاقدني فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه فقال استقد قال فاعتنقه فقبل بطنه فقال ما حملك على هذا يا سواد قال يا رسول الله حضر ما ترى فاردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير ] .
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (... وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه ...) رواه مسلم
وعن عبدة بنت خالد بن معدان قالت : [ ما كان خالد يأوي إلى فراش إلا و هو يذكر من شوقه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و إلى أصحابه من المهاجرين و الأنصار يسميهم و يقول : هم أصلي و فصلي و إليهم يحن قلبي طال شوقي إليهم فعجل ربي قبضي إليك حتى يغلبه النوم ]
و لقد كان سلف الأمة من الصجابة والتابعين لا يذكرونه إلا خشعوا و اقشعرت جلودهم و بكوا
و قال مالك ـ وقد سئل عن أيوب السختياني : [ ما حدثتكم عن أحد إلا و أيوب أفضل منه :
و قال : وحج حجتين فكنت أرمقه و لا أسمع منه غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه و سلم بكى حتى أرحمه ] .
وقال مصعب بن عبد الله : [ كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه و سلم يتغير لونه و ينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه فقيل له يوما في ذلك فقال لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون و لقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا يبكي حتى نرحمه
وقد قال ثابت البناني لأنس بن مالك رضي الله عنه : أعطني عينيك التي رأيت بهما رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أقبلها .
هذا هو النور الذي اتبعوه
فأي معلم .. وأي انسان .. ؟؟
هذا المترع عظمة ، وأمانة ، وسموا ..؟
ألا ان الذين بهرتهم عظمته لمعذورون ..
وان الذين افتدوه بأرواحهم لهم الرابحون ..!
ابن عبد الله محمد .. رسول الله الي الناس في قيظ الحياة ..
أي سر توفر له فجعل منه انسانا يشرف بني الانسان ..؟
وبأية يد طولي ، بسطها شطر السماء ، فاذا كل ابواب رحمتها ونعمتها وهداها مفتوحة علي الرحاب ..؟!!
أي ايمان ، وأي عزم ، وأي مضاء .. ؟!
أي صدق ، وأي طهر ، وأي نقاء ..!!
أي تواضع .. أي حب .. أي وفاء ؟!
أي تقديس للحق
أي احترام للحياة ، وللأحياء ..؟!
لقد اتاه الله من أنعمه بالقدر الذي يجعله أهلا لحمل رايته والتحدث باسمه بل ويجعله أهلا لأن يكون خاتم رسله ..
ومن ثم ، كان فضل الله عليه عظيما ..
ومهما تتبار القرائح والالهام ولأقلام –متحدثة عنه ،عازفة اناشيد عظمته ، فستظل جميعا كأن لم تبرح مكانها ، ولم تحرك بالقول لسانها ..
واذا كانت صفحات الصدارة من هذا الكتاب ، تريد ان تستهل الكتاب بحديث عن الرسول عليه صلاة الله وسلامه ، فهي لاتطمع في ان توفي الحديثبعض حقه ... ولا تزعم انها تقدم الرسول العظيم الي القراء .
انما هي – لاغير – بنان تومي علي استحياء الي بعض سمات تفوقه وعظمته ، التي جعلت أفئدة الناس تهوي اليه ، والتي جذبت نحوه في ولاء لا نظير له هؤلاء الذين يتحدث الكتاب عن بعضهم من مهاجرين وانصار ،والتي لم تكد الحياه تنشق عبيرها ،حتي جعلت من كل رياحها وانسانها بشرا بين يديها ، ورسلا الي كل بقاع الانسان ومواطنه ،حاملة مبادئ الدعوة ، وعبير الداعي .. صدق التعاليم ، وعظمة المعلم .. ونور الرسالة ورحمة الرسول ..
أجل تلك هي الغاية ، لا أكثر .
أن تبصر في ضوء شعاع من ضيائه الغامر بعض سمات عظمته النادرة التي نادت اليه ولاء المؤمنين ، وجعلتهم يرون فيه الهدف والطريق والمعلم والصديق ...
ما الذي جعل سادة قومه يسارعون الي كلماته ودينه ..ابوبكر وطلحة والزبير و عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن ابي وقاص ..متخلين بهذه المسارعة المؤمنة عن كل ما كان يحيطهم به قومهم من مجد وجاه ، مستقبلين في نفس الوقت حياة تمور مورا شديدا بالأعياء ، والصعاب ، وبالصراع .؟!
ما الذي جعل ضعفاء قومه يلوذون بحماه ويهرعون الي رايته ودعوته وهم يبصرونه اعزل من المال . ومن السلاح .. يتزل به الاذي ويطارده الشر في تحد رهيب ، دون ان يملك عليه الصلاة والسلام له دفعا ..؟!
ما الذي جعل جبار الجاهلية عمر بن الخطاب وقد ذهب ليقطف راسه العظيم بسيفه ،يعود ليقطف بنفس السيف الذي زاده الايمان مضاء ،روؤس اعدائه زمضطهديه ..؟!
ما الذي جعل صفوة رجال المدينة ووجهاءها يغدون اليه ليبايعوه علي أن يخوضوا معه البحر والهول ، وهو يعلمون ان المعركة بينهم وبين قريش ستكون أكبر من الهول ..؟!
ما الذي جعل المؤمنين به يزيدون ولا ينقصون ، وهو الذي يهتف فيهم صباح مساء :- (لا املك لكم نفعا ولا ضرا.. ولا ادري ما يفعل بي ولا بكم) ؟؟
ما الذي جعلهم يصدقون ان الدنيا ستفتح عليهم اقطارها ، وأن أقدامهم ستخوض خوضا في ذهب العالم وتيجانه .. وأن هذا القرآن الذي يتلونه في استخفاء ، ستردده الآفاق عالي الصدح قوي الرنين ، لا في جيلهم فحسب .. ولا في جزيرتهم فحسب .. بل عبر الزمان وجميع المكان ..؟!
ما الذي جعلهم يصدقون هذه النبوءه يحدثهم بها رسولهم ، وهم الذين يتلفتون فلا يجدون أمامهم وخلفهم ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، سوي القيظ ، والسغب ، وحجارة تلفظ فيح الحميم ، وشجيرات يابسة ، طلعها كأنه رؤوس الشياطين ..؟!!
ما الذي ملأ قلوبهم يقينا وعزما ..؟
انه ابن عبد الله ..
ومن لكل هذا سواه ..؟!
لقد رأو رأي العين كل فضائله ومزاياه
رأو طهره وعفته وأمانته واستقامته وشجاعته ..
رأو سموه وحنانه ..
رأو عقله وبيانه ..
رأو الشمس تتألق تألق صدقه وعظمة نفسه ...
سمعوا نمو الحياة يسري في أوصال الحياة ، عندما بدأ محمد يفيض عليها من وحي يومه ، وتأملات أمسه ..!
رأو كل هذا ، وأضعاف هذا لا من وراء قناع .. بل مواجهة وتمرسا وبصرا وبصيرة ...
وحين يري عربي تلك العصور شيئا ويفحصه ، فلا ينبيك آنئذ مثل خبير ...
هؤلاء رأو محمدا وعاصروه منذ أهل علي الوجود وليدا لم تخف عليهم من حياته خافية ..
هذا هو معلم البشر ، وخاتم الأنبياء
هذا هو النور الذي رآه الناس وهو يحيا بينهم بشرا ... ثم رآه العالم بعد رحيله عن الدنيا ، حقيقة وذكرا ...
والآن ، ونحن ذاهبون الي لقاء نفر من أصحابه الكرام علي الصفحات المقبله فان كل اسباب هذا الاعجاز ستكون واضحه امامنا .
هذه الأسباب التي لم تكن شيئا ،سوي النور الذي اتبعوه ..
سوي محمد رسول الله ، الذي جمع الله له من رؤية الحق ، ورفعة النفس ، ماشرفت به الحياة ، وأضاءت به مقادير الانسان
لقد صدق البصيري فى قوله
محمد سيد الكونين والثقليــن والفريقين من عرب ومن عجمِ
نبينا الآمرُ الناهي فلا أحدٌ أبر في قولِ لا منه ولا نعم
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته لكل هولٍ من الأهوال مقتحم
دعا إلى الله فالمستمسكون به مستمسكون بحبلٍ غير منفصم
فاق النبيين في خلقٍ وفي خُلُقٍ ولم يدانوه في علمٍ ولا كرم
وكلهم من رسول الله ملتمسٌ غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمِ.