د/ ولد الزين: في عهد ولد عبد العزيز انتعشت ذاكرة الأمة بعد موت سحيق أصابها لسنين
ألقى الدكتور الشيخ ولد الزين ولد لمام مؤخرا محاضرة في قرية النيملان بمناسبة إحياء ذكرى معركة النيملان بين المقاومة الوطنية، والمستعمر الفرنسي، وفي ما يلي نص المحاضرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على نبيه الكريم
محاضرة تحت عنوان
تمجيد المقاومة واجب الخلف
ذكرى معركة انييملان نموذجا
الدكتور الشيخ ولد الزين ولد الامام
عضو المجلس الاسلامي الأعلي
نائب الامين العام لرابطة العلماء الموريتانيين
قال تعالي : ({) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) [آل عمران: 169 - ص171] صدق الله العظيم
في هذا العهد عهد محمد ولد عبد العزيز انتعشت ذاكرة الأمة .. بعد موت سحيق أصابها لسنين
فأحيت الأمة ذكر علمائها .. وخلدت ذكر شهدائها .. وعادت للأمة حيويتها بهد سبات عميق
هذه أرض انييملان .. المجد والكبرياء .. غير بعيد من هذه البلدة ضريح المجاهد أبي بكر بن عامر .. من حطمت سنابك خيله قلاع الكفر والشرك
.. من هذه البقاع سطعت أضواء الإسلام فأضاءت مجاهل إفريقيا والعالم .
هنا عقب الفاتحين من لدن عقبة بن نافع الفهري الي ضئضئ المجد المرابطين المجاهدين
لا غرو إذن أن تكون البلدة عنوان الصمود والوحدة والمقاومة ..
فهذه أرض من قال قائلهم
وقد نمتنا الكرام من أرومتها من جذم عبد مناف من ذرى الغرر
الخيم يمنعهم من كل باقعة والمجد يحرزهم من كل ذي خور
لا غرو إذن أن، تنطلق جذوة الجهاد والمقاومة والدفاع عن الأوطان من هنا .
ذلك لأن حب الوطن غزيرة فطرية وقد قيل : ” إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه ، وتشوقه إلى إخوانه ، وبكاؤه على ما مضى من زمانه ” .
وحب الوطن فطرة رفع من شأنها الإسلام ، بل جعل الدفاع عن الوطن فريضة فقد أجمع الفقهاء على أن العدو إذا دخل دار الإسلام يكون قتاله فرض عين على كل مسلم . قال خليل :(الجهاد في أهم جهة كل سنة وإن خاف محاربا: كزيارة الكعبة: فرض كفاية ولو مع وال جائر: على كل حر ذكر مكلف قادر: كالقيام بعلوم الشرع والفتوى ودفع الضرر عن المسلمين والقضاء والشهادة والإمامة والأمر بالمعروف والحرف المهمة ورد السلام وتجهيز الميت وفك الأسير. وَتَعَيَّنَ بِفَجْءِ الْعَدُوِّ وَإِنْ عَلَى امْرَأَةٍ وَعَلَى من بقربهم إن عجزواوبتعيين الإمام)
ولما كان الخروج من الوطن قاسيا على النفس صعبا عليها فقد كان من فضل الصحابة المهاجرين أنهم ضحوا بأوطانهم فى سبيل الله وقد مدحهم الله سبحانه على ذلك فقال تعالى ({(7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} [الحشر: 7، 8]
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن نبيِّه إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام أنه دعا لمكة المكرمة وهي وطن أهله قال الله تعالى ({ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ويئس الْمَصِيرُ (126) } [البقرة: 126] [
وقد ثبت في الأثر والسير حنين النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه إلي الوطن فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة ما أطيبك من بلد وما أحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : قال مقاتل :خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الغار ليلا مهاجرا إلى المدينة في غير الطريف مخافة الطلب فلما رجع إلى الطريق ونزل الجحفة وعرف الطريق الى مكة فاشتاق اليها فقال جبريل عليه السلام إن الله يقول (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) أي إلى مكة ظاهرا
عليها ).
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت :لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال ، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول :
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله.
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته يقول :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما ماء مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
وقال :اللهم العن شبيبة بن ربيعة , وعتبة بن ربيعة , و أمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء . فبلال رضي الله تعالى عنه ( يتمنى الرجوع إلى وطنه ). ب ـ حب الوطن مقترن بحب النفس والدين :ـ فقد اقترن حب الديار مع محبة النفس وأن كلا منهما أمر متأصل في النفوس عزيز عليها قال تعالى (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ)(النساء 66). واقترن في موضع أخر بالدين فقال تعالي (لاَيَنْهَـكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَـرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة 8). والتي اقترن حب الوطن مع الدين , فالبر والعدل مأمور بهما لمن لم يقاتل المسلم على دينه ولم يخرجه من وطنه والجمع بيتهما دليل على تقارب مكانه كل منهما في الإسلام وفي النفوس . هذا يدل على تأثير الأرض , وعلى أن طبيعة الإنسان التي طبعه الله عليها حب الوطن , والديار ولكن لهذا الحب حدودا يجب ألا يتجاوزها لأن فوق هذا الحب حب آخر أولى منه وأهم وهو حب العقيدة والدين فإذا ما تعارض حب الوطن مع الدين وجب حينئذ تقديم الأعلى وهو الدين وقد يهاجر المسلم من أرضه فرارا بدينه حين لا يستطيع إظهاره , والمحافظة عليه . قال تعالى(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (التوبة 2
إن الولاء للإسلام، والانتماء للوطن هو الذي دعي هؤلاء الشهداء للتضحية بمهجهم دفاعا عن الإسلام وحرمة الوطن .
لقد صدق الشاعر عندما قال .
ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعَهُ وألا أرى غيري له الدهرَ مالكاً
إن شهداء المقاومة مفخرة الجميع والتشبث بهم وإحياء ذكرهم واجب الخلف
فلقد خاض الشعب الموريتاني معارك زادت علي ستين معركة مع المستعمر الفرنسي .
ولقد كانت وقعة انييملان رمزا للوحدة .. فاتحدت فيها القبائل والجهات تحت راية لا اله إلا الله محمد رسول الله
كانت انييملان معركة شعب ووطن قبل أن يكون هناك وطن ..
لقد ارتوت بلدة انييملان بدماء الشهداء وتمازجت فيها دماء الشعب بجميع مكوناته .
لقد رأي الشعب الموريتاني في الاستعمار الفرنسي خطرا يتهدد دينه وهويته الثقافية وخصوصيته الحضارية فرفض التعامل معه وواجه تواجده بمقاومة مستميتة كانت انييملان إحدي معاركها الفاصلة
وقد نقل الفقيه المؤرخ الطالب اخيار ولد مامين في كتابه الشيخ ماء العينين علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار عن المجاهد محمد الشيخ ولد اعل بيبه من قبيلة الزرقيين والذي حضر المعركة أن المجاهدين توزعوا إلي ثلاثة فرق:
- فرقة أخذت مواقعها في العدوة الشرقية للوادي وهي جبهة ادوعيش وفرقة في العدوة الغربية للوادي وهي جبهة الأغلال وادولحاج وتجكانت وغيرهم والثالثة صارت إلي وسط الوادي وهي جبهة السمارة وآدرار ومن انضم إليها .
ولقد أبان الجميع عن مستوي رائع من الصمود والشجاعة .
وكانت غاية الجميع هي الشهادة في سبيل الله .
وينقل عن سيد المختار بن الشيخ القاضي قوله أيها الناس من فاته يوم بدر فليشارك في هذا اليوم .
ولقد كان للمجاهد الكبير محمد المختار ولد الحامد الكنتي دور البارز في حسم المعركة ذلك أنه أثر عنه قوله : المسلمون يقتلون لا حياة بعد اليوم ثم أمر فرسانه بالغارة فشدوا علي الفرنسيين شدة رجل واحد فقضوا عليهم جميعا
كما نقل المؤلف نفسه الدور البارز لكل من احمد محمود ولد بكار ولد أسويد احمد ومحمد الاغظف ولد الجودة الغلاوي و ابن عمه محمد ولد عبدي ولد الصافي الغلاوي أيضا .
وقد بلغ شهداء المعركة أكثر من ثمانين شهيدا من ادوعيش خمسة عشر ومن جبهة اسمارة أربعة وعشرون ومن الأغلال أربعون منهم محمد الاغظف ولد الجودة المذكور وغيره من أبناء عمومته من أهل جدو ولد أخليف وأولاد يبوي وأولاد مالك وأولاد موسي وغيرهم .
ومن المهم التنويه بدور محوري بذلته المرأة الموريتانية في هذه المعركة فقد كن يحملن الماء لسقي الجرحي ومداواتهم ويثرن حماس المجاهدين وقد سجل المؤرخون دورا بارزا للشهيدة النقرة بنت الحجوري من قبيلة ادوعيش.
بل إن كل مكونات الشعب من الشعراء و المنمين والمزارعين والصناع , كان للجميع أدوار لا غني عنها في هذه المقاومة .
لقد أبان الشعب الموريتاني المسلم عن شجاعة منقطعة النظير شهد بذلك العدو نفسه .
يقول الجنرال كورو (ليس باستطاعة من لم ير البيضان يقاتلون ان يدرك مدي بسالتهم أنهم لا يلبسون إلا ثوبا فضفاضا خفيفا يحسرونه عن سيقانهم في الحرب ولا يملكون من السلاح إلا بنادقهم العتيقة ورصاصها والخناجر تراهم بشعورهم الطويلة وعيونهم البراقة يقفزون من صخرة إلي صخرة يختفون خلف ابسط حاجز يطلقون الرصاص يغيرون من مواقعهم كما تفعل الوحوش )
ولقد كان للعلماء دور محوري في الحث علي الجهاد بل كان الجهاد والمقاومة تحت راية الإسلام لا راية القبيلة أو الجهة .
يقول محمد الإمام ولد الشيخ ماء العينين
وإن مسكم قرح فقد مس مثله عداكم وفزتم بالجميل وبالحمد
ويوم بيوم عادة الدهر هكذا يداول بين الناس بالنحس وبالسعد
فلا تخضعوا مهما ما أديل عليكم ولا تفرحوا أن تثلموا مرهف الحد
ولا تجزعوا إن شبت الحرب والتظت فكم بين سيدان المعامع والأسد
وما دام شبر تحت سيطرة العدا فلا تجمعوا بين الصوارم والغمد
و يقول المختار ولد ابلول الحاجي
وفي الذكر تحريم الولاية منكم لذي الكفر فهي الدهر موبقة بسل
وظاهره في ذي الولاية كفره بطوع فمن يعشق عن الحب لا يسلو
وطابق حكم الذكر في ذاك سنة وإجماع من ينمي له العقد والحل
وقد الف سيد محمد ولد حبت الغلاوي رسالة في حكم من غلب علي وطنه النصاري .
وكتب سيد المختار بن محمد عينين بن احمد الهادي اللمتوني رسالة بعنوان إرشاد الضال إلي وجوب جهاد كبلان وحرمة مساكنته الموجبة للفسق والعصيان .
وألف محمد الأمين ولد احمد زيدان فتوى بان حكم المسلمين وقد احتلت أراضيهم قصر الصلاة
وألف محمد حبيب الله ولد ما يابي مزيل الحرج في رد ما عند من اسقط الهجرة من الحجج
وله قصيدة منها
والجور والإسلام في بلادنا خير من العدل مع الكفر الجلي
مصلحة الدين علي الدنيا يري تقديمها حتما مراعي الأفضل
كما أفتي بعض العلماء بتحريم مدارس فرنسا ومنع دخول الأولاد كما فعل ابن آلا الحسني
الحمد لله علي ما نفسه من الكروب بسقوط المدرسه
مدرسة الروم عن أبناء الحسن وقد يراها غيرهم أمرا حسن
وهم يرونها بعين الأرمد ليس بها هاد ولا من مهتد
وقد اعتبر بعض العلماء تلك نازلة مثل محمد بن محمد المصطفى البارتيلي الذي يقول
مِلْح البلاد ما جواب سائل عن حكم أمر في البلاد نازل
إسـلامُنا أولادنا الصغارا طوعـاً إلى مدارس النصارى
ولم تقتصر مقاومة المحاضر للاستعمار على الفتاوى بوجوب الجهاد ومقاطعة المدارس الفرنسية، بل تجاوزته إلى فرض حصار اقتصادي على المستعمر من خلال منع بيع المنتجات المحلية له وخاصة الصمغ العربي، يقول اجدود بن اكتوشن (ت 1289هـ/1872م
لا تعينوا بالعلك حزب النصارى فاقطعوا عنهم الشراء حذارا
فإذا ما أعنتموهم أساؤوا أتعينون آثما كفارا؟
واخلص في الأخير متوسلا بشهداء انييملان راجيا من المولي عز وجل صلاح الحال والمآل و قائلا ما قال الوليُّ الصالح محمد بن بكّ العلوي
في قصيدته التي مطلعها
ألا مقلتي باتت كمقلة أرمـــــــــــــــــد وحالي مما نابها حال مكمـــــــد
تجود وقد ضاقت علي مذاهبــــــــــي بدمع كمنظوم النفيس المبــــــدد
وقد غاب أقوام ألفت جوارهـــــــــــم فنو مي من الأحزان نوم مسهـــد
إلي أن يقول:
ألا يابني الكنتي إني بجاهكــــــــــم توسلت للمولى فهل من تــــــزود
ليقضي تباعتي ويذهب فاقـــــــتي ويصلح أحوالي وينجح مقصــــدي
فكم فيكم من سيد ذي تصـــــــــرف.